للباحث الفرنسي برتراند باديه كتاب بعنوان «الدولتان» يتناول فيه بشكل مقارن طبيعة السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام. ويخلص الكتاب الى طبيعة الأزمة التي واجهتها «دولة الحداثة» العربية التي ورثت جزءا لا يستهان به من النظام السابق عليها. يحدد باديه ثلاثة محاور للاختلاف بين دولة الغرب ودولة الإسلام لكننا نكتفي بمحور واحد هو «الشرعية».
يؤكد باديه على أن الدولة الإسلامية التي بخلاف المسيحية لم تقم فيها مؤسسة على غرار الكنيسة تعطي المشروعية للحكم، ظلت تعاني الافتقار إلى نظرية سياسية تربطها، وتشتق من، الأصول العقدية.
ولم تكن مؤلفات الكتاب المسلمين إبان ازدهار الدولة وحتى في وقت أفولها تتناول أبعد كثيرا من آداب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبعضا من واجبات كل منهما، ولا تتضمن تعريفا للدولة كمؤسسة مجردة. كان ثمة انشقاق نسبي بين الحقيقة الكبرى التي ظلت خاضعة للتفسير الفردي مفتقرة للتعبير المؤسساتي عن العقيدة، والدولة المفتقرة إلى الشرعية. ولذلك سلّم بعض الفقهاء (وقد شهدنا سجالا شبيها مؤخرا بعد صعود الجماعات الأصولية إلى الحكم في بعض دول الربيع العربي) بحكم الغالب الغالب اتقاء لما أسموه بالـ«فتنة»، بل إن بعضهم أجاز ولاية الفاسق مادام ظاهريا يحافظ على إقرار الشعائر في البلاد.
ويرى باديه أن دولة الحداثة» العربية لاقت أزمة المشروعية نفسها إذ أنها تشكلت من النخب القديمة نفسها التي أرادت الحفاظ على مصالحها باحتكار كامل السلطة. وأن هذه النخبة لم تتشكل في صراع اجتماعي تكون نهايته توازن قوى اجتماعية يعبر عنه في صيغة مجردة كالقانون، ومصالح مشتركة تحول دون أن يكون الصراع مدمرا ممثلة في الدولة التي صارت كيانا اعتباريا لا شخصيا.
لم تكن الدولة العربية إذن تمثيلا لمجتمع، ومن ثم كان عليها أن تخلق هذا المجتمع من خلال السيطرة الأيدبولوجية على كل فصائله المتنازعة أو الطالبة للحكم، ومن ثم راحت تجمع أشتات أيديولوجيات وأفكار بطريقة الترقيع لتبدو «ممثلة للجميع» ومبتلعة لهم أيضا. وصارت تتهم كل ما عداها لا بالاختلاف ولكن بإثارة الفتنة.
ولد ما يسمى «الهامش» السياسي والثقافي في هذا الإطار الاحتكاري الذي يحرمه من الاختلاف، بل يجعل اختلافه لا أخلاقيا «عملاءـ مخربون ـ حاقدون ..». ومن ثم لم يكن صراع الهامش مع القوى الحاكمة هو صراع مع فصيل في السلطة، بل صراع يسحب المصداقية من فكرة الدولة نفسها.
الأدب العربي منذ الستينات كان أكثر انشغاله منصبا على ذم الدولة وسلطتها، وأحيانا على ذم الفعل السياسي نفسه باعتباره لا أخلاقيا. راحت الثقافة (في جانبها الأدبي) تبني عالما موازيا فرديا مفككا على هامش الدولة، مثمنة تلك الفردية بالإطلاق المتعسف وبكل ظلالها الشاعرية.
ولعلها ليست مصادفة أن تكون كلمة الثقافة لدينا مرادفة خصوصا للنزوع الأدبي على حساب كل أشكال البحث والتأليف المنظم. عالم لا مقياس له، وهو أيضا لا يقل نخبوية على عالم السلطة، ولا يعبر عن تمثيل اجتماعي، ليكون بمنزلة الرصيد الدلالي الذي يختبر مقولاته باستمرار.
وكمثل الدولة رأى الحقيقة معه، كلازمة لموقعه الهامشي، أي أنه قلب الآية فقط. صارت كلمة هامشي تعبيرا استباقيا عن النبل والحقيقة معا دون أن يكون لهما أي تبرير موضوعي، ودون أن يكون ملزما بذلك.
من الطبيعي إذن أن تسبق الثورات «المهمشين» الذين كانوا يدّعون الثورة في قصائدهم، لكنها حين جاءت فغروا أفواههم دهشة ولم يكن لديهم ما يضيفونه عليها حقيقة. ومن الطبيعي أن يكونوا عاجزين إلا عن مواكبتها عاطفيا دون تقديم أي استبصار. فالمجتمع كان كلمة غائبة، إلا بشكل سلبي، والدولة كانت صنما علينا تحطيمه. وهو الآن يتحطم فعلا، لا كصنم وإنما كبشر ومؤسسات، وصيغ عامة للتعايش. يجد «المثقف» ذاته، وقد انحسر بريق هامشيته، بلا عمل تقريبا، عاجزا عن محاكمة تاريخه الخاص، هو الذي اعتبر نفسه طوال الوقت أعلى من الحكم.
مهاب نصر