
في ساعة متأخرة من الليلة الثانية من ليالي الاحتفال بالعيد الوطني، كانت مجموعة من الشباب والمراهقين على امتداد رصيف «المارينا»، بعضهم جلس إلى الرصيف وقد أمال سلاحه البلاستيكي الضخم، وآخرون بدوا حائرين بمدافع المياه بعد أن خلت الشوارع أو كادت، يدفعون ما تبقى من مخزونها في صورة زخات ضعيفة على الأرض. الوجوه أنهكها التعب، ولكن ظلاً آخر كان يبدو وراء الوجوه كأنه الذهول.
احتفال عنيف (ربما يقول البعض)، كان له وجه آخر داخل «المارينا نفسها» في صورة محلات صغيرة أعدت على عجل لتقديم الآيس كريم أو البطاطا المقلية أو المعجنات.
«طعام وانتقام»، هكذا قلت لنفسي. أعيادنا وتعبيرنا عن السعادة، من الناحية الاجتماعية، تتضمن غالباً شيئاً من العنف، شيئاً موجهاً إلى الخارج. يهزنا من الأعماق الممثل الكوميدي الذي يسخر من عيوب الآخرين. اعتاد أبطال الكوميديا المسرحيون أن يحجزوا مشاهد للسخرية من البدناء أو قصار القامة أو الصلعان (كما هو حالي).
ضحك باطنه الإيذاء في الوقت الذي كانت السيارات تتوقى زخات المياه على الطرق أو تتبادل القتال المائي مع غيرها، كان فنانو المرسم الحر يلونون عيدهم بإبداعاتهم التشكيلية، ولكن داخل أسوار لا يراها أحد.
قلت: «ألم يكن من الأجدى أن يسمح لهؤلاء الفنانين بأن يذهبوا بأعمالهم الفنية إلى الشوارع والميادين، ليراهم الناس وهم يحولون الفرح إلى طاقة جمالية لا تؤذي، ولا تذهب زخاتها المتبقية على الأرض في أسى؟».
يشكو الكبار «الناضجون» عادة من عنف الشباب، من وسائل الفرح شبه العدائية، ويأتي المحللون النفسيون في الفضائيات ليقول أحدهم وهو يميل خده «أعتقد... في الواقع...»، شارحاً ظواهر الفرح العنيف، بادئاً بأضرار العولمة ومخاطر الإنترنت، والتفكك الأسري.
لكن لا أحد يسأل عن دور الكبار أنفسهم في التسهيل لهذا العنف. مثلاً: كيف تمر أعياد وطنية دون أن تقدم المدارس نماذج من أنشطتها الفنية والثقافية على مدار العام؟ لماذا لا تمتلئ الشوارع برسومات أطفال تعبر عن فرحهم الخاص؟ ما دور الجامعات التي تتصور أن الحياة الأكاديمية تعيش خلف أسوار مزينة ممراتها بالورود، ولكن لا أحد يتنفسها في الخارج؟ لماذا لا يقدم المجلس الوطني عروضاً أو مواكب فنية شعبية؟ لماذا تحجم الشركات العملاقة التي تزين بناياتها الشاهقة بعناقيد النور عن تزيين حياة المواطنين ولو في هذين اليومين من خلال دعم عروض فنية مجانية؟
هل استورد الشباب العنف، أم أن العنف كان التعبير المقلوب عن فرح لم يجد صيغته الإيجابية، صيغة المشاركة في إنتاج عمل جميل؟
ماذا تعلم الشباب من الكبار؟ ماذا تعلموا من جلسات الساسة، وحروب الديكة على الفضائيات؟
كنت أشاهد بالصدفة فيلماً قديماً هو علامة من علامات السينما «12 رجلاً غاضباً» Twelve angry men. الفيلم الذي يدور كله تقريباً في حجرة المحلفين يضعنا مباشرة أمام مأزق الضمير الإنساني حين يجد نفسه مطالباً بالحكم على حياة شخص ما. رجل واحد من بين المحلفين يوقظ هذا الضمير القلق ويرفض التصويت بالمصادقة على الإعدام، يبدأ النقاش ويتصاعد ويحتدم، منتهياً بإعلان «الرجال الغاضبين» عن عدم مصادقتهم على الحكم بالإدانة. ولكن المهم في الفيلم أنه خلال النقاش يتكشف كيف أولاً أن مصير البشر قد يتعلق بكلمة منا، كما يكشف ببراعة كيف أن نقاشاً حقيقياً يقوده الضمير يبرز ما في آرائنا من انعكاس لخلفياتنا الثقافية وأسلوب تربيتنا وظروفنا الخاصة التي لا بد من التجرد منها أمام حياة إنسان مهددة. الحوار ينتصر على العنف، الحوار يحول الرجال الغاضبين إلى رجال تعرّفوا إلى أنفسهم وأعادوا اكتشاف إنسانيتهم.
على النقيض من ذلك، بأي سهولة تصدر فتاوانا بالقتل، بالتخوين، بالعمالة، حواراتنا بطانة للعنف، واحتفالاتنا تعبير عن نفوس لم تدرب على الفرح الجماعي، بقدر ما تجهل نفسها وتجهل الجماعة، أيضاً. فهي لم تتعرف إليها على مدار العام من خلال التعبير المشترك، تريد الإعلان عن نفسها، ولكنها لا تدري كيف يكون ذلك بشكل إيجابي. هكذا يخرج إلى شوارعنا كل يوم رجال غاضبون.