
مضى عامان على الثورات، كان المثقف فيهما مترددا في الإجابة عن بعض الأسئلة، وقراءة المشهد الذي كان متحركا لدرجة أن قراءته كانت صعبة فعلا. في بعض بلاد الثورات اتضحت الرؤيا وحسمت بعض الصراعات لمصلحة الاسلاميين، وفي بلاد أخرى ننتظر ما ستؤول إليه الأمور. المثقف كان متهما بأنه تأخر عن ركب الثورات ولحقها متعجلا، من دون أن يملك مشروعا كما قال البعض. ولكن بعد عامين هل نستطيع القول ان الصورة اتضحت؟ وكيف يقرأها المثقف اليوم ويقيم أداء المثقفين فيها؟
د. سليمان العسكري- رئيس تحرير مجلة العربي- قال إن الصورة كانت واضحة منذ البداية بأن ما يحدث هو نتاج متوقع منذ زمن، لانحراف الانظمة الحاكمة في تلك الدول عن مسؤولياتها ودورها في البناء والحفاظ على مصالح البلاد والعباد، إلى سلطات ظالمة عاجزة، لشيخوختها وطول بقائها فى السلطة، إلى أنظمة ينخر فيها الفساد وتزداد ظلما وقهرا للناس، كلما زادت في مطالبها بحقوقها وحريتها، ولم تفهم حتمية التغيير لمواكبة احتياجات الناس ومطالبهم، في عصر تضاعفت فيه سرعة التطور عشرات بل قل مئات المرات وأضاف:
لقد عجزت هذه الانظمة الحاكمة عن قراءة ماحدث فى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين، عندما تهاوت أنظمة الحكم الشمولية في روسيا السوفيتية وأنظمة شرق أوروبا الدائرة في فلكها، تلاها انهيار دولة كبيرة كيوغسلافيا وتمزقها الى عدة دول، لم تستطع أن تفهم أن هذا الانهيار إنما هو نهاية لحكم الحزب الواحد واحتكار السلطة، وهو عصر الشعوب التي تختار من يحكمها، تحاسبه وتستبدله متى ماوجدت منه انحرافا عن مصالحها او استبدادا ضدها.
إن التطور البشري نحو الحرية والديموقراطية ورفض التسلط واحتكار السلطة قد أصبح واقعا عالميا، ولم يعد قاصرا على أمم معينة وحدها، فالعولمة المعاصرة أزالت السدود والحدود بين الأمم، وأصبح التأثير والتأثر بينها سمة العصر.
إنما مايحدث من ثورات في عالمنا العربي ليس تداولا للسلطة، بل هو مطالبة بتغيير شامل في بنية مجتمعات راكدة متخلفة عما حدث ويحدث في عالم جديد. إنه لمن المؤكد أن تلك الثورات لن تكتفي باستبدال شخص بآخر ولاحزب بحزب ليستمر التسلط والاستبداد، لأن الثورة تعني التغيير الشامل في النظام الأبوي الذي ساد لعقود طويلة، وتمكين الناس من حريتهم في الاختيار والمراقبة والمحاسبة.
ركام من تخلف
ثم أردف د. العسكري ان الأوضاع الحالية يجب ألا تفهم على أنها فشل ونهاية للثورات، لأنها لا تزال في مراحلها الأولى، وأمامها ركام عقود طويلة من الفساد والتخلف الضارب في أركان مجتمعاتها الأربعة، أمامها مهمة تغيير هيكلي شامل في بنية التعليم والثقافة والاقتصاد والقيم واحترام حقوق الانسان في حرية الاختيار، وتمكينه من اختيار أسلوب حياته وأسرته، وإعادة بناء مجتمعه بما يتناسق مع التطور الحضاري للعالم المعاصر، والتفاهم والتعاون معه لضمان سلامه واستقرار وتنميته وازدهاره.
تحريض وريادة
أما عن موقف بعض المثقفين من الثورات فقال:
مع الأسف، هناك بعض الأصوات والأقلام المحسوبة على المثقفين اعتقدت أن مايجري هو تحريض على الاستقرار وتخريب، ولم تفهم دوافع هذه التمردات والاحتجاجات في بداياتها، وعجزت كالأنظمة التابعة لها عن استيعاب تطوراتها وأسبابها. وهذه الاصوات القليلة لا تمثل موقف ورأي المثقفين الذين وقفوا مع الناس ودافعوا عن مطالبهم، بل وأهم من هذا هو ريادتهم لهذه الثورات بكتاباتهم السابقة وإنتاجهم الفكري والأدبي الذي كشف الظلم والاستبداد والفساد للناس، من خلال الرواية والقصيدة والفيلم السينمائي والمقالة السياسية والاجتماعية، في تحليل الواقع وتشريحه وكشف عيوبه، وهذا هو دور المثقف في كل زمان منذ ان كان متجولا يشرح للناس واقعهم، ويكشف لهم عيوبه وعيوبهم، وذلك قبل الإذاعة والصحيفة والمطبعة والورق.
ويكفي أن نذكر أن المثقفين المخلصين لثقافتهم كانوا أكثر المضطهدين والمشردين من قبل أجهزة صدام حسين والقذافي والاسد وصالح ،لأن الدكتاتور بطبعه لا يحتمل النقد والتوجيه لأفعاله مهما كانت خاطئة وإجرامية.
دور لاحق للانتفاضات
الكاتب والروائي السوري عمر قدور قال إن الصورة قبل عامين كانت مفاجئة ومتحركة بسرعة أيضا- لنتذكر أن ثورتي تونس ومصر أسقطتا نظامي الحكم في بلديهما خلال أيام- مما لم يدع فرصة للتأمل المباشر فيما جرى حينها، فالتأمل يحتاج إلى مساحة من الوقت.
وقال إن عنصر المباغتة استخدم من قبل البعض كحجة على المثقف الذي لم يستشرف، ولم يعمل حثيثا، من أجل اندلاع الانتفاضة، ثم تساءل: متى كانت الانتفاضات تندلع بالضرورة وفق تنظيم مسبق؟!. وأضاف متحدثا عن دور المثقف الذي يأتي لاحقا بطبيعة الحال في الانتفاضات التي لا تحمل استعدادا ثقافيا، كما قال:
أعتقد أن واحدة من أخطر ميزات الانتفاضات تكمن في عدم توقعها، ولعل هذا سرّ من أسرار نجاحها وانتشارها السريع. أميّز هنا بين الانتفاضة والمفهوم الكلاسيكي للثورة، فالتصور الكلاسيكي للثورة هو أقرب إلى الانتظام، بما في ذلك الانتظام وفق نسق ثقافي يحمله الثوار. أما الانتفاضات فتأتي غالبا من الانسداد التام في أفق التغيير التدريجي، لذا لا تحمل استعدادا ثقافيا بالمعنى المباشر للكلمة، وهي إلى ذلك غالباً ما تندلع بشرارة صغيرة غير منتظرة، أي لا تُعرف إشارة بدئها مسبقا.
من هنا أعتقد أن دور المثقف يأتي لاحقا لبدء الانتفاضات عادة، تجلى هذا ربما بشكل واضح في البلدان التي استمرت فيها الانتفاضة لمدة طويلة كما في الحالة السورية. هنا نرى نسبة كبيرة من المثقفين الذين انخرطوا في أسئلة الثورة اليومية ومآلاتها المنتظرة، وقلة هي التي نأت بنفسها عما يحدث، ويمكن القول إن الكثير من المثقفين أسهموا بشكل فعال في توسيع أفق ومدارك الثورة، والأهم من ذلك تخليهم عن العزلة الإجبارية التي كانت إلى وقت قريب تُعدّ قدر المثقف العربي.
عجز عن التأثير
البعض رأى أن أزمة الثورات العربية مرتبط بغياب دور المثقف، ولكن د. علي مبروك- أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة- قال إن المثقف يبقى حاضرا، بشخصه ومشروعه، ولكنه عاجز عن التأثير في المشهد وتحدث عن أسباب هذا العجز:
يمكن المجادلة بأن السبب في ذلك يرتبط باستمرار المثقف في التفكير في الأزمة العربية الممتدة- على مدى عدة عقود- بحسب الخطاب نفسه الذي استقر على مدى القرنين الماضيين، منذ تدشينه مع الطهطاوي مع بدايات القرن التاسع عشر. وقد اتسم هذا الخطاب بخصيصة بنيوية، لا تزال تلازمه للآن، ولم يعرف معها إلا مجرد التعاطي الإجرائي مع تلك الأزمة. فإن كل الحلول التي جرى التفكير فيها- ضمن هذا الخطاب- لم تجاوز حدود السعي إلى استعارة ما تقدم به الآخر، ومحاولة تشغيله فوق سطح الواقع؛ وبصرف النظر عن المصدر الذي يأتي منه هذا الذي تقدم به الآخر (الغرب أو السلف). فهكذا اشتغلت قوى التحديث التقليدية على نحوٍ إجرائي مع (الحداثة)، وهكذا تشتغل قوى الإسلام السياسي الصاعدة مع (الإسلام)؛ وبمعنى أن الأمر معهما لا يجاوز أبداً حدود التشغيل الإجرائي لنماذج جاهزة على سطح واقعٍ لم يكن أبداً موضوعاً لمعرفة علمية منضبطة.
ويرتبط هذا الطابع الإجرائي الذي غلب على الخطاب- منذ البدء- بأن سؤال التغيير، في العالم العربي، قد تبلور، لا كمطلب مجتمع، بل بما هو قضية دولة. وبحسب ذلك، فإن التغيير قد تحدد كمسألة تبنيها السياسة، وليس كحركة لابد أن يكون لها ما يؤسس لها معرفيا.
وبالطبع، فإن كون ما يشغل السياسة هو معاينة آثار فعلها ملموسا قد حدد طريقة عملها في السعي إلى عزل الإجرائي الجاهز عن سياقه الذي تبلور داخله، ثم تركيبه بالإكراه والعسف على سطح واقعٍ لا يكون مطلوبا منه إلا الخضوع لهذا الذي يجري فرضه عليه؛ ومن دون أن ينشغل أحد بتفكيك المنطق الذي ينبني بحسبه هذا الواقع نفسه، لكي يمكن التأثير فيه حقاً.
وإذ يكشف أي تحليل عن أن هذا الخطاب هو أصل الأزمة على النحو الذي كان لابد أن يؤول إلى أن الثورة هي بمنزلة إعلان عن نهايته؛ فإن ظواهر الحال تكشف عن استمرار اشتغاله تحت يافطات الإسلاميين، وهو ما يعني استمرار الأزمة.