
ظل الغناء والشعر متلازمين، حتى أصبحا نبض الحياة في مجالس اللهو والسمر لدى العامة والخاصة في كل العصور الماضية. وكانت أصوات غِرّيدات النغم الجميل من المغنيات المتعلمات في تلك العصور تصدح في المجالس بروائع الشعر، حتى أصبحن جزءاً من الحياة الاجتماعية، حين ارتبطت حكاية كل واحدة منهن بجوانب كثيرة من الحياة السياسية والثقافية في عصرها. هذه الحلقات عن غريدات النغم الجميل تُعطي صورة لما كان يحدث في المكان والزمان - آنذاك - حين أصبح الصوت الجميل بالشعر الجميل نغماً يسحر الألباب ويأسر القلوب. وحين أصبحت جواري القصور سيدات الأقدار وصانعات الأحداث وراء الجدران وخلف أستار المجالس.
وصل الاعجاب بغناء «زهور حسين» وبطريقة غنائها وبالأخص حين تغني مقام «الدشت» في مقدمة أغانيها وحين تدخل بعض المقاطع باللغة الفارسية مع العامية العراقية، أنها اصبحت مطربة العراق الأولى بعد سليمة مراد ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وعفيفة اسكندر. ولم تعد مجالس الأنس والطرب في بغداد لدى العامة والخاصة منذ اربعينات ذاك القرن حتى مطلع الستينات مكتملة من دون حضور «زهور حسين» التي تلهب مشاعر الحضور حماسا وطربا ونشوة.
مؤنسة الوصي والوزراء
كانت مؤنسة المجالس بغنائها وخفة روحها وضحكتها التي تنطلق مع بحة صوتها وغنجها حين يغازلها هذا وذاك من المسؤولين الكبار. حتى ان الوصي على عرش العراق عبدالإله ورئيس الوزراء السابق نوري السعيد كانا يدعوانها الى حفلات خاصة يحضرها علية القوم في الأربعينات والخمسينات من ذاك القرن.
وحسب الرواة، فان الوصي وكبار الوزراء في ذاك العهد كانوا يبدون في مجالسهم اشد طربا وأنسا بحضور زهور حسين حين تغني لهم أغانيها الشعبية الشائعة بين الناس، والتي تدور مستهلاتها الأولى على ألسنة العامة وبالأخص أغنية «خالة شكو» التي هي اقرب الى المرح الكوميدي منها الى المنلوج الذي يحب كبار المسؤولين ترديده في خلواتهم الخاصة، فتتطاير السداير مع تطاير الدنانير. وكانوا يطلبون منها هذه الأغنية ليرددوها معها وهم يتضاحكون: خالة شكو؟ وكأنهم يسألون «خالتهم» عن أحوال الأمة التي أضاعوها وعصف بها الزمان:
خالة شكو شنهو الخبر دحجيلي
فدوة رحتلج ليش متكوليلي؟
عيني دكوليلي اشصار
خالة شكو؟
والله شعلتيني أبنار
خالة شكو؟،، عيني شكو..؟
خالة عليج الله سمعتي خبر
محبوب قلبي عيني يمكن نفر؟
قلبج عليَّ ياحبيبة انكسر
ميهمني خلّي أيروح
خالة شكو..؟
ترتاح منه الروح
خالة شكو.. عيني شكو
غريبة من بعد عينج يايمّة
حين غنت زهور حسين (1924 - 1964م) أغنيتها الشهيرة «غريبة من بعد عينج يايمة» من دار الإذاعة العراقية، وهي من كلمات الشاعر عباس العزاوي وألحان الموسيقار الكبير عباس جميل، أبكت زهور مستمعيها في بغداد ومدن العراق، فقد مسّت هذه الأغنية شغاف القلوب المفجوعة، خصوصا قلوب البنات اللواتي فقدن أمهاتهن، ولبسن الحزن عليهن. فالأم عند العراقيات ملاذ في وقت الشدة والمصيبة. وما أكثر المصائب التي مرّت على العراقيات والعراقيين، فهم شعب الفواجع، فكانوا أول من يناجونها ويبثون لها لواعج الحزن والشوق هي الأم، وكل اغانيهم تبدأ بعبارة «يايمة» وتنتهي بـ«يايمة». فهي أول من يشكون لها ظلم الحكام والزمان وضيق الدنيا بهم، وآخر من يشكون إليه. ولا يوجد مخلوق في الكون له هذا المقام الرفيع في مشاعر البنات والبنين مثل الأم، ذلك لأن قلبها يتسع لهذه الشكوى التي لا تنقطع. فكيف يكون الحال حين تغيب الآم ويصبح الملاذ عسيرا، وتصبح النفس غريبة لا ملاذ لها؟
غريبة من بعد عينج يايمة
قصة الأغنية
كانت زهور حسين تغني بدار الإذاعة العراقية ومعها المطربة لميعة توفيق في حفلة غنائية على الهواء مباشرة في 6 يناير بمناسبة عيد الجيش عام 1960، حين جاءها خبر وفاة والدتها فخرية، التي تعيش في كربلاء، لم يبق من عائلتها سوى أمها التي فقدتها وأختها فاطمة. وحين جاءها الخبر تلقته بالبكاء وبلوعة اليتيم الغريب. فأمها آخر من بقي لها من ملاذ تلوذ به في حياتها المليئة بالشدائد والأحزان وخيبات الأمل. فسارعت الى تهيئة جنازة أمها ودفنها. وسارع معها لمساعدتها كبار فناني ذاك الزمان. محمد القبنجي ويوسف عمر وعبدالرحمن خضر ورضا علي وعباس جميل وحضيري بو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم ومن كتّاب الأغنية اللامعين سيف الدين ولائي وعباس العزاوي وجبوري النجار وغيرهم.
كانت أشبه بـ«الفزعة» التي تعبر عن تراحم وتواصل الفنانين، بعضهم لبعض، في وقت الشدائد، ذلك التواصل والتراحم الذي لا نجده الآن في هذه الزمن. فقد غاب القمر عن سماء العراق منذ قرن من الزمن، وغابت الألفة والمحبة بين النجوم، فلم تعد تلمع بالفضائل والشمائل. وفي ذلك الجو المملوء بالحزن الذي أحاط بزهور حسين كتب لها الشاعر العزاوي أغنية غريبة من بعد عينج يايمة «مواساة لها وتنفيسا لحزنها الكاتم على قلبها، فغنت وأجادت وظلت هذه الأغنية الى الان على شفاه كل من يودّع أمه الحبيبة الراحلة عنه:
غريبة من بعد عينج يايمة
محتارة ابزماني
ياهو اليرحم أبحالي يايمّة
لو دهري رماني؟
حاجيني يايمة،،
فهميني يايمة
غريبة من بعد عينج يايمة
محتارة أبزماني
قلبي لو فرح أنتِ فرحتي
قبلي ياأحبيبة
أترد الروح لو يمّي كعدتي
يالريحتج طيبة
حاجيني يايمة..
فهميني يايمة
غريبة من بعد عينج يايمة
محتارة أبزماني
قضيتي لجلي أيام وليالي
سهرانة عليَّ
لو شفتي الألم أثر بحالي
رضيتي بالمنيّة
حاجيني يايمة.. فهميني يايمة
أكثر من مئة أغنية على ألسنة الجمهور
غنت زهور حسين أكثر من مئة أغنية، ومعظم أغانيها كانت تقترب من مشاعر العامة من الناس، وتلامس حياتهم الشعبية البسيطة وعلاقاتهم اليومية بمفرداتها الشائعة وبمعانيها البسيطة المتداولة بين الجمهور، لذلك اكتسبت زهور حسين شعبية كبيرة بين بسطاء الناس في المحلات الشعبية بسبب طبيعة أغانيها تلك التي اشتهرت بها مثل «جيت لأهل الهوى أشتكي من الهوى ياعزيز الروح يبنيّه عليج الله تفرحون نفرح ألكم ظلاّم ماعدكم رحم ياللي ظلمتوني خالة شكو؟ يم أعيون حراكة آني الليّ أريد أحجي».. وغيرها الكثير من الأغاني الشعبية التي اشتهرت بها :
ظلام ما عدكم رحم ياللي ظلمتوني
بالفرح تقضون العمر وانا نسيتوني
أو أغنية:
آني الليّ أريد أحجي
والعالم يسكتوني
نوبة أضحك ونوبة أبجي
ذبلن بالبجي أعيوني
يانار القلب زيدي
كل الليّ جرى منيدي
وصابر علليّ هجروني
من زهرة الى زهور
قيل إنها ولدت عام 1924م وقيل عام 1918، وهو الأصح، وكثيرا ما تختلف الروايات حول مولد المشاهير في ذاك الزمان، كما قيل أنها ولدت في كربلاء وفي رواية أخرى في الهندية طويريج، لكن الرواية الأصج أنها ولدت في مدينة «الكاظمية» شمال بغداد لأب نقاش اسمه حسين النقاش، من أصل إيراني الذي رحل بعائلته من كربلاء الى الكاظمية طلبا للعيش والعمل هناك. وكان الأب من مشاهير العمال النقاشين بالفطرة الذين يرسمون على الجدران أجمل النقوش من الطرز القديمة بألوان الطبيعة. وكان مشهورا في صنعته متميزا بها، رساما ونقاشا ونحاتا. غير انه كما يقول المثل «سبع صنائع والبخت ضايع». فقد ظل فقيرا، فهو بالكاد يعيل أسرته التي تضم زوجته وأبنتيه زهرة وفاطمة. ذلك لأن أحسن المهن في عشرينات ذلك القرن لا تدر على صاحبها ما يكفي لمعيشة عائلته. وفي يوم كان فيه حسين النقاش يعمل في نقش جدران احد البيوت، وإذ بأفعى تلدغه فمات وترك عائلته الصغيرة بلا معيل، ينطبق عليها المثل القائل «يا أم حسين كنتي ابوحدة صرتي باثنين». ومنذ ذلك الحين وهي طفلة عرفت زهرة، التي حملت فيما بعد اسم زهور حسين، اليتم والفقر والحاجة الى الخروج من قاع العوز الذي تقبع فيه اسرتها الصغيرة.
صوت جميل ذو بحة متميزة
وحين بلغت زهرة السادسة من عمرها دخلت المدرسة الابتدائية، ووصلت الى الصف السادس، ثم انقطعت عن الدراسة بسبب الفقر أو بدافع العمل المنزلي لمساعدة والدتها التي راحت تعمل ببعض الأعمال اليدوية، اما زهرة فقد تجلت موهبتها الغنائية انذاك في صوتها الجميل وهي صبية لم تكتمل الأنوثة فيها بعد، وأصبحت صوتا معروفا في تلك المدينة التي تغلب عليها المناسبات الدينية. ولم يمر وقت طويل حتى باتت «زهرة حسين» صوتا مسموعا ومرغوبا في مناسبات الأعراس والأفراح النسوية، حيث كانت مجالس النساء بعيدة عن مجالس الرجال. وتمكنت «زهرة» من لفت انتباه الكثير ممن كانوا يطلبونها لاحياء مناسباتهم، ليس لخفة دمها ولحركاتها المنولوجستية التي تعبر عن انسجامها مع الأغنية فحسب، بل لصوتها الشجي ذي البحة التي تثير في نفوس سامعيها الحنين والشوق، فقد كانت بحة صوتها وقوة أدائها تجذبان اليها السامعات، حتى ان الكثيرات من النسوة كن يذهبن الى حفلات الأعراس لكون زهرة حسين تغني فيها، وهي تقلد الأغاني التي كانت تستمع اليها من الأسطوانات على «الكرامفون» او من الراديو من دار الاذاعة العراقية التي بدأت منذ منتصف الثلاثينات تبث أغاني المطربين الأوائل.
فضل الإذاعة على المطربين
لم تكن الاذاعة منذ نشأتها في العراق ذات فضل على زهور حسين وحدها، انما كان لها الفضل في شهرة وانتشار معظم الفنانين من مطربين وموسيقيين وغيرهم في ذلك الزمان. ويمكن ان نقول ان بداية الاذاعة العراقية كانت أولا من يوم الأول من أبريل عام 1932، حيث أعلن عن اقامة المعرض الصناعي التجاري في بغداد، وان الملك سيقوم بافتتاحه ويمكن للمستمعين أن يستمعوا الى برنامج الاذاعة من هذا المعرض، ومن الساعة الثامنة والنصف حتى العاشرة والنصف صباحا. ولم يكن الناس في غالبيتهم آنذاك يملكون أجهزة الراديو، لكنهم زحفوا بشكل جماعات نحو المعرض ليستمعوا الى مايذاع فيه. وبعضهم تجمع هنا وهناك في مقاه متفرقة، حيث توجد أجهزة الراديو القليلة آنذاك. واستمع الجمهور الى كلمة الملك فيصل الأول ومحاضرة للاديب أمين الريحاني وقصيدة للشاعر جميل الزهاوي.
بعد ذلك توقف البث الاذاعي ثم أعيد في السابع من فبراير عام 1935 بثا تجريبيا من الساعة السادسة والنصف مساء ولمدة ساعتين لم يستمر طويلا، وتضمن البرنامج فقرات موسيقية متنوعة وحديثا صحيا وأغنيتين للمطربة سليمة مراد، وعزفا على الكمان للفنان صالح الكويتي الذي كان أشهر عازفي ذاك الزمن، والذي كان له الفضل في بداية ظهور زهور حسين.
غير أن البث الرسمي للاذاعة العراقية بدأ يوم 10 يونيو عام 1936 وفي عام 1937 صدر نظام رسمي للاذاعة جعل اسمها «دار الاذاعة العراقية» بدلا من (محطة الاذاعة) مع فرض ضريبة على كل جهاز راديو، مقدارها مئة فلس لتغطية نفقاتها. ومن ذلك التاريخ أصبحت الاذاعة دارا للفنانين الأوائل قبل وبعد زهور حسين. ووسيلة الاتصال الأولى بينهم وبين الناس.
صالح الكويتي له الفضل عليها
عام 1937 استمع الفنان الراحل صالح الكويتي وأخوه داود الى صوت زهور حسين وهي لم تغيّر اسمها، بعد وانبهرا بصوتها الجميل وببحة صوتها المميزة وباحساسها في أدائها لأغانيها، وعرض عليها صالح العمل في ملهى «الفارابي» الذي كان يملكه في بغداد بمحلة الميدان، ووافقت على ذلك كما وافقت على تغيير اسمها من زهرة الى زهور باقتراح من المطربة منيرة الهوزوز التي تعرفت عليها مع الفنان عباس جميل انذاك كما قيل.
ومن ذلك التاريخ بدأت رحلة زهور حسين على طريق الشهرة حين بدأت تغني في ملهى صالح الكويتي الذي بدأ يصرف لها راتبا شهريا مقداره 200 دينار، وهو مبلغ يعتبر ثروة كبيرة في ذلك الوقت. وفي عام 1944 ساعدها صالح الكويتي في أداء أولى حفلاتها الغنائية من دار الاذاعة العراقية، حيث كانت تلك الحفلات للكثير من المطربات والمطربين تذاع على الهواء مباشرة انذاك ولمدة ساعة يوميا. وسجلت لها شركة جاقمقجي التي اشتهرت انذاك بتسجيل اسطوانات لأشهر المطربين والمطربات، اشهر أغانيها على اسطوانات زادتها شهرة.
نجاح في الغناء وفشل في الحب
بقدر ماحققت زهور حسين نجاحا في الغناء حتى أصبحت من القليلات اللواتي مازال الجمهور يذكرهن ويردد أغانيهن التي اصبحت جزءا من التراث الغنائي العراقي، بقدر هذا النجاح، حصدت زهور حسين الفشل تلو الفشل في الحب، فقد زرعت قلبها برياحينه فذبلت وسقته بينبوع روحها فجف الماء فيه. وبدت لها الحياة في الكثير من الأحيان صحراء قاحلة. جربت الحب والعشق مرات عديدة وغنت للحبيب حتى كادت تصفه عن قرب. وتزوجت مرات سرا وعلنا وسعت وراء الحبيب الذي اختارته كثيرا، لكنها فشلت في اختيارها، كان عشاقها كثيرين لكن أحبابها قليلون. وقد يكون حظها مثل حظوظ الكثير من المغنيات اللواتي يبحثن عن الحب النقي فلا يجدنه في الملاهي ومجالس الطرب، انما وجدن الشهوات الميسورة بالمال تحوم حولهن. لذا كانت زهور حسين قلقة في حياتها لم تجد الراحة النفسية في زمانها وانتهت حياتها بمأساة، فبكى عليها الكثير من محبي صوتها الذين مازالوا يرددون اشهر أغانيها.
نهاية محزنة
ذات يوم من عام 1964 قررت زهور حسين ان تسافر سريعا الى الحلة (بابل) لزيارة زوجها الذي ارتبطت به عرفيا. وقبل حبيبها الذي عشقته لكونه فتى جميلا ومن عائلة ميسورة. لكنه كان يميل الى اللهو وافتعال المشاكل فحكم عليه بالسجن في سجن الحلة اثر جريمة ارتكبها. وقيل في رواية أخرى ان هذا ليس زوجها أو حبيبها انما زوج أختها فاطمة التي اصطحبتها معها في سيارتها (الفولكس واكن) التي اقلتهما معا الى الحلة. ومهما تعددت الروايات فان الرواية التي أجمع عليها كل من عرفوها انه زوجها وحبيبها الذي اختاره قلبها. ولم تكن زهور حسين هي التي تقود السيارة انما كان يقودها سائقها الذي فوجئ بظهور أغنام امامه في الطريق بين بغداد والحلة، فانحرف بالسيارة واصطدم بسيارة لوري قادمة من الجهة الأخرى، فقتلت في الحادث فاطمة أختها، أما هي فأصيبت باصابات خطيرة نقلت على اثرها الى مستشفى الحلة، لكنها توفيت بعد ساعات قلائل. ومن الصدف العجيبة أن السائق نجا من الحادث.. وبهذه النهاية المأساوية انتهت حياة «زهور حسين» أشهر مطربات العراق في منتصف القرن الماضي.
المصادر
- «قيان بغداد» عبدالكريم العلاف
- «المقام العراقي بأصوات النساء» حسين الأعظمي
- «المدى» كمال لطيف سالم
- أرشيف صحافي