
يشيد الباحث المصري الدكتور عبدالناصر حسن محمد في كتاب جديد له عن أبي نواس، صادر عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، أيما إشادة بالشاعر العباسي أبي نواس، فهو يرى ان شعر أبي نواس، على المستوى الفلسفي، يجيب عن ضرورة ملحة هي ضرورة السعي إلى أقاصي الكيان البشري، والعيش في حالات روحية نادرة حيث يتلاقى الزمان بالأبدية في تجربة تعد من أقدم التجارب التي تسبر أغوار الإنسان العميقة وتستكنه مراميها الاخرى.
شعر أبي نواس ظاهرة فنية فريدة من نوعها تقع على حافة تفصل بين مرحلتين ثقافيتين وحضاريتين تمثلان حجر الزاوية في تطور الأدب العربي القديم، حيث تتجسد في شعره عناصر فنية وموضوعية تتحد في عموميتها وتختلف في تفاصيلها، فتتلاحم عناصر الاتباع والابداع في نسيج متكامل.
أصول الثورة
يعرض الباحث لثورة أبي نواس على الطلل، وما إذا كان صحيحا ان ثورته هذه كانت تستمد أصولها وتعاليمها من منابع شعوبية، فهل كان أبو نواس شعوبياً؟
يرفض الباحث الاستسلام لهذه الفكرة ويناقشها، كما يقول، في موضوعية وحيدة، «فلو سلمنا جدلاً» ان ثورة أبي نواس كانت ثورة على العرب، أو موقفا سياسيا خاصا من حضارتهم، فما الذي جعل الشاعر يحرص دائما على الانتساب إلى العرب، في أكثر من موقف، وإلى أكثر من قبيلة؟».
في ظل «الأمين»
إذاً فقد كان ابو نواس يحرص على الانتساب إلى العرب، فهل من العقل ان يحتقر الشاعر حياة هؤلاء الذين نسب نفسه إليهم؟
قد نجد قصائد فخر فيها الشاعر بأصله الفارسي وهاجم فيها الحياة العربية في صورتها البدوية، ولكن ذلك ورد في أبيات قليلة لا يمكن اعتبارها دليلاً قاطعا على اتجاه سياسي، إذ لم يتخذها مذهباً يجد في اعتقاده فيعادي العرب أو يتنصل منهم كما تنصل غيره كبشار، وكيف يعتنق ابو نواس الشعوبية وقد بلغ في ظل الأمين ورعايته اقصى حد يطمح إليه شاعر من نجاح، وتهيأ له من أسباب الرغد والترف ما يجنبه الشعور بمرارة الفشل التي يمكن ان تحمله إلى الحقد على العرب، والانتصار للفرس، وقد كان الأمين يمثل اخر مرحلة من مراحل السيادة العربية الخالصة في الدولة العباسية؟!
ويلاحظ الباحث ان الاشعار التي هاجم فيها ابو نواس العرب كانت تخص طائفة بعينها منهم، هي طائفة الاعراب في البادية، ولم يتعرض أبو نواس للعقل الفارسي والعقل العربي ليفضل الأول على الثاني. لم تكن ثمة صلة تربط الشاعر بالاعراب. أما سكان الحاضرة من العرب، فقد كانت علاقة الشاعر بهم علاقة حميمة. فهو يقول على لسان الخمر، بعد ان ذكر لها أصنافا من الشرب فرَجَتْه ألا يمكّنهم منها، ولكن يخصّ بسقيها العرب، ويبدو ان العرب الذين قصدهم الشاعر في سياق تجربته هم أهل الحاضرة ممن يعيش معهم.
ولا السفال الذي لا يستفيق ولا
غرّ الشباب ولا من يجهل الأدبا
ولا الأراذل إلا من يوقّرني
من السقاة، ولكن اسقني العربا!
ذوق جديد
ولكن اذا سلمنا بان ثورة أبي نواس لم تكن ثورة شعوبية، فهل يمكن اعتبارها ثورة فنية خالصة على وجه من الوجوه؟ وهل يمكننا القول ان ابا نواس كان بطبعه أميل إلى الذوق الجديد، إلى جعل أداة الشعراء، اداة للتعبير عن تجربة شعورية صادقة، وأن هذا جعله يرفض ان يحصر نفسه في التقاليد الموضوعية والشكلية لقصيدة المديح لله؟ وبناء على ذلك فهل نعتبر ان الثورة على الطلل هي مقومات الدعوة الجديدة من حيث دوافعها ومبرراتها؟
يبدو ان الأمر لا يُفسّر على هذا النحو، اذ كيف نفسر تلك الطبيعة الجدلية التي ظهر بها الطلل في شعر أبي نواس، كما اننا لا نستطيع ان نقتنع ببساطة بذلك الرأي القائل: ان هذه القصائد التي بدأها الشاعر بمطالع تقليدية انما كانت بدافع من الخليفة، ويمكننا ان نلاحظ ان هذه الآراء النقدية المختلفة قد افتقدت محور الارتكاز الأساسي الذي يعين على فهم الظاهرة، أي طبيعة النص، اذ ان الظواهر المختلفة لا تعني شيئاً على الاطلاق الا عند تكاملها مع المحاور الدلالية الأخرى في القصيدة، وقد ادى عدم مراعاة ذلك الى ان تقع هذه المناهج في تضارب وحيرة، اذ قررت ان موقف أبي نواس من الاطلال يفتقر الى الانسجام ويدعو الى التشكيك في اصالته، فهو من جهة يهاجم الوقوف على الاطلال بلغة مباشرة، ومن جهة ثانية نلاحظ ورود الطلل في قصائده كعنصر فني من العناصر المكونة للقصائد في المديح.
اذاً فقد اعتمدت هذه النقود المختلفة على مجرد وجود الظاهرة في النص المدروس، أي الظاهرة معزولة عن البنية الكلية للقصيدة.
نظرة جزئية
يرفض الباحث عبدالناصر حسن محمد هذا التناول الجزئي، معتبراً ان الظاهرة بحد ذاتها لا تعني، وانما الذي يعني هو العلاقات التي تنشأ بين الظاهرة وغيرها، وأول ما ينبغي على الدارس هو ان يضع يده على العلاقات المشكلة لبنية القصيدة، وان يحدد العلاقات التي تنشأ بينها مكتشفا الدلالات العميقة النابعة من قيم التوافق والتخالف بين هذه العلاقات.
ان الدارس لشعر ابي نواس يلاحظ ان عدد المرات التي هاجم فيها الطلل تفوق الى حد بعيد عدد القصائد والمقطوعات الطللية، كما يلاحظ ان القصائد التي لازم بناءها الفني حديث الطلل - عدا قصائد المديح - جاءت تجربة الطلل فيها هامشية البعد، لا سيما اذا كان المحور الخمري هو العالم المقابل لعالم الطلل، فكأننا بإزاء ثنائية متناقضة الطرفين حيث يمثل الطلل رمزاً للتراث الحضاري والتراث اللغوي والشعري في مقابل الخمر وهي تمثل بديلا لهذا التراث الثقافي والديني والاخلاقي.
جدلية الصراع
والواقع ان هذه الثنائية ما هي الا جدلية الصراع بين القديم والجديد في شكل من اشكالها، وبدراسة الظاهرة دراسة اسلوبية تقوم على الاستقصاء الدقيق، نلاحظ ان ابا نواس كان يتخذ من الوقوف على الاطلال رمزا لسلوك خاص يمثل التزمت والتخلف عن مسايرة روح العصر الذي يعيش فيه، بما يقدم ذلك العصر من متع ونزوات وانطلاق، لذلك نجد ان البناء الشعري لرفض هاتين القيمتين (الطلل ومقدمة الفروسية) كان يأتي مصحوبا بسلوك حضاري بديل لهما يمثل حالة توافق وانسجام وتناغم مع الأنا الشاعرة، اذ هو عالمها الذي ينبغي ان تعيش فيه.
ويلاحظ الباحث اخيراً، في نقطة جوهرية في شعر ابي نواس هي نقله المستمر لخصائص كون شعري او فكري معين من سياقة التراثي، واضفاؤه لهذه الخصائص على كون اخر او ذات اخرى، وبهذه العملية الجارية يتجاوز ابو نواس التقرير اللغوي البارد المباشر لمواقفه وينفذ الى اعمال من التصور الشعري تجعل دوره في تثوير الشعر دوراً جوهرياً.