
لم يعد «الفيسبوك» أحد تجليات العصر، بل صار سمته وصفته وصانعاً مباشراً لحوادثه مؤثراً فاعلاً في مساراته. لم يعد نتيجة، بل صار فعلاً تجاوزت حدود تأثيراته الإطار الشخصي، ليصبح منبراً لإطلاق المواقف ولإقامة العلاقات وللتسويق والإعلان.
«الفيسبوك» صانع للتعبير وللتطرف والسخافة والديموقراطية في آن واحد، فكيف يمكن رصد أثره وتحديد مساراته؟ القبس توجهت بهذه الأسئلة إلى مجموعة من المثقفين العرب لرصد أثر «الفيسبوك» ومواقع التواصل الاجتماعي على الثقافة وشؤونها.
1. ترى أن «الفيسبوك» يساعد في نشر الثقافة، أم يدمرها؟ وهل تعتبره ترويجاً للفكر والثقافة، أم انحداراً بهما إلى مستوى الثرثرة والتشات؟
2. في الغرب يلجأ الرؤساء والنجوم إلى صفحات التواصل مع جمهورهم. هل تشجع المثقف على هذا الأسلوب الاستقطابي؟
3. في ظل هذا التشابك الكثيف هل تتوقع أن يحافظ المثقف على انضباطه الثقافي من دون الوقوع في فخ الإسفاف وشهوة التسليع؟
4. ثمة كثير من أصحاب المواهب أبرز «الفيسبوك» إنتاجهم الفكري وشجعهم على الكتابة العلنية، هل ترى ذلك إيجابية تسجّل لـ«الفيسبوك»؟ وما السلبيات؟
5. هل يمكن تصنيف بعض ما يكتب على «حائط» بعض المشتركين كنوع من الثقافة الشعبية؟
الشاعر منذر المصري (سوريا)
1 - نعم أنا أرى أن «الفيسبوك» يساعد على نشر الثقافة.. وعلى الترويج للفكر إلى حد بعيد، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ضعف المستوى الثقافي السائد عربياً. وحسب تجربتي، فقد رأيت كيف وسع «الفيسبوك» مدارك شباب كثيرين نشطوا فيه، وكيف مكّنهم من الاطلاع على المعارف بأنواعها، وكيف رفه مستواهم الثقافي.. والإنساني.
نعم للاستقطاب
2 - لماذا لا.. بل يا حبذا.. وحقيقة توقفت عند وصفك له بالأسلوب الاستقطابي؟! هل في هذا سلبية ما؟
3 - لطالما كان الأمر هكذا، حفاظ المثقف على انضباطه وهيئته وغاياته كمثقف كان ولايزال شأناً خاصاً، يتوقف على شخصيته وعلى مفهومه للثقافة وعلاقته بالآخر. وأرى أنه خلاف ما يذهب إليه السؤال، «الفيسبوك» على المدى الطويل، باعتباره واسطة تواصل واحتكاك مباشر، وساحة للمواجهة يتواجد عليها الجميع، أقرب أن يمنع المثقف من الإسفاف ويحد من شهوته للتسلع حتى وإن رغب.
وداعا للرقابة
4 - نعم أرى إيجابية.. كثيرا ما التقيت بشعراء وكتّاب مشكلتهم الرئيسية عدم توافر طريقة لنشر نتاجهم وتعريف الآخرين بهم، لدرجة أن أكثرهم توقف عن المحاولة ووضع كل شيء بالأدراج.
والكتابة يجب أن تكون دائما علنية، الكاتب هو من لديه الرغبة في أن يشارك الآخرين أفكاره وأحاسيسه. من ذاك الذي ينظر بأسف لتلك الأيام التي كان هذا وذاك من رؤساء التحرير لعدد محصور من الصحف والمجلات، يتحكمون بمصير تجارب الألوف من الراغبين في دخول حقل الأدب والفكر؟ من ذاك الذي ينظر بأسف لأيام الرقابة، والنشر بشرط عشرات الموافقات.. نعم لقد جاء عصر الكتابة المفتوحة، الحرة، المسؤولة أمام نفسها قبل أي شيء، التي هي بذاتها تختار نوعها ومستواها ومواقفها كما تخلق قراءها.
5 - أيضاً، أنا إيجابي في نظرتي لكل شيء في هذا المجال.. ما يكتب البعض على «الفيسبوك» أنواع كثيرة من الثقافة، الشعبية منها والنخبوية العالية المستوى، حتى اني أخيراً رحت أحفظ في ملف خاص ليس فقط كتاباتي، بل كتابات أصدقائي وغير أصدقائي تحسباً من أنهم أنفسهم يكتبونها ويهملونها.
الشاعر د. عامر بدران (فلسطين)
1 - لنتفق أولا على تعريف محدد للثقافة، فإن أخذنا التعريف الذي يتبناه ميشال دوغي مثلا، والذي يقول إن الثقافة هي عائلة الكلمات الثقافية، والتي تتغير في معناها من عصر إلى عصر، بالتالي فمعنى الثقافة قديما ليس هو المعنى الحديث. يحيل هذا التعريف الى بعد اقتصادي للثقافة، أي إلى تراث له قيمة مادية، لا معنوية فقط، لا أعتقد أن «الفيسبوك» حسب هذا التعريف له القدرة على التدمير، ناهيك عن الترويج. ربما يكون لجمعيات حماية التراث تأثير أكبر في هذه الحالة.
أما إذا أخذنا تعريف الثقافة حسب إرنست غيلنر، فهي منظومة تعليمية مفروضة من السلطة السياسية ومعممة على الجميع ويستفيد منها الجميع، من هنا فإن حدود التمايزات الثقافية لا تتوافق بالضرورة مع حدود الوحدات السياسية المعترف بها كأمم أو كدول، وبهذا المعنى يأتي الفيسبوك في سياق العولمة وأداة من أدوات العولمة الثقافية. هنا تبرز أهمية التفاعل والتأثير المتبادل التي تتيحها هذه الأداة مع الثقافات الأخرى وانتقادها أو تبنيها والاستفادة منها. الانحدار هو في المستخدِم لا في الأداة. نحن فقط نبرر أو نرفض من دون تحليل ونقد.
أما بندكت أندرسون، فيعرف الثقافة بأنها تركيبات ذهنية مفترضة أو كيانات افتراضية. يا لغرابة هذا التعريف عندما يقارن بتعريف الفيسبوك!
أهيمة الحوار
2 - في زمن سابق كانت هناك هالة كبيرة حول الكتّاب والشعراء والعديد من المفكرين. لقد كان المثقف يعيش في برج عاجي لا يصل إليه أحد، وهذه مشكلة كبيرة للمتلقي ولصاحب النص وللثقافة عموماً. فمن المهم أن يتواصل صاحب الفكرة مع الناس يسمعهم ويسمعونه ويناقشونه في أفكاره، فالحوار حاجة وأداة مهمة أيضاً.
لكن ثمة فرق كبير بين الجمهور والمريدين أو ما يسمى بلغة «الفيسبوك» (فان)، الذين يزورون صفحات المشاهير للتعبير عن الإعجاب فقط وليس للنقاش والحوار.
على مسؤولية المثقف
3 - يعتمد هذا الموضوع بالدرجة الأولى على كيفية تعامل المثقف مع «الفيسبوك»، فإذا اعتبره صفحة لنشر إنتاجه الفكري ولم يقدم أي طروحات أخرى شخصية أو انطباعات يومية، فإن أي خروج سيعتبر إسفافاً بنظر القارئ. أما إذا اعتبره صفحة للتواصل الاجتماعي، فهنا يصبح من حقه أن يقدم نفسه بالصيغة الإنسانية التي تناسبه، لذلك حتى «الفيسبوك» أوجد أنماطاً مختلفة من الصفحات منها ما هو صفحة شخصية، ومنها ما هو صفحة نشر، وما يجب قوله في هذا السياق أن أدوات التواصل أيا كانت هي دائما في حالة تطور وتغيّر، لذلك لا يمكن إيقاف هذه العجلة، ويبقى الاعتماد دائما على صاحب الإنتاج ليحافظ على إنتاجه بالشكل الذي يراه مناسباً، كما أن قراءة الماضي تؤكد أن الكثير من المفاهيم التي نعتبرها اليوم منضبطة كانت في زمن ما تسمى إسفافاً أو منجرة نحو شهوة التسليع.
تطوير المواهب
4 - بالتأكيد هي إيجابية، ليست فقط في مجال إبراز المواهب، وإنما في مجال تطويرها أيضاً، حيث دخل أصحاب هذه الإمكانات في معترك النقاش والجدل حول إنتاجهم، واستفادوا من تجارب آخرين وكوّنوا علاقات بينهم وبين أصحاب خبرات أكبر تمت عملية تفعيلها بشكل واضح، ولكن المشكلة هي ضياع أدوات التقييم والنقد المنتظم لهذه المواهب وغيرها، فأصبح الكثير من الموهومين يقدمون أنفسهم كموهوبين ويعتمدون أساليب غير الموهبة لترويج أنفسهم، في النهاية لا يمكن الدوام والخلود إلا للنص الجيد والموهبة الحقيقية، والباقي سيندثر تلقائياً.
التكرار المعلب
5 - أنا لستُ مع هذا المصطلح، فالثقافة أساساً هي مفهوم شعبي، لأنه لا يمكن فصل الثقافة عن الشعب أو الجماعة، إن صح التعبير، وبالتالي فالمشكلة أن هناك إنتاجاً يصنف ضمن الثقافة غير الشعبية، فالثقافة مفهوم في متناول يد الجميع، وليس حكراً على فئة أو طبقة، المشكلة فيما يقدم على الفيسبوك تحت اسم ثقافة، وهو ليس أكثر من تكرار لأفكار معلّبة أو مقولات جاهزة تجاوزها الزمن.