
يدهشك يوسف زيدان، كاتباً مفكراً ومحققاً مدققاً وروائياً لامعاً، اشتغل على التراث مستجلياً مضامينه الفكرية والمعرفية والعقلية والعقيدية، بأوسع مما كان يحتمل لدى العرب الأقدمين من معاني «فضل السابقين» و«علم الأوائل»، و«أقوال من سبقنا»، غير مازج بين مصطلحي «التراث» و«التاريخ».
إذا كان «التاريخ» هو الماضي في بعده التطوري، فإن «التراث» هو الماضي في بعده التطوري موصولاً بالحاضر ومتداخلاً فيه، على حد تعبير الدكتور الطيب تيزيني، وبالتالي يجسد الاستمرارية من الماضي الى الحاضر، مما يتضمن معنى التركة الحاضرة في الهوية الثقافية للأمة بتراثها الشعبي وثقافتها العالمة، وبذا يشكل التراث بنياناً موضوعياً ناشئاً عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التاريخية، ومركباً بشكل معقد كجامع مشترك بين الماضي والحاضر.
وهنا تستبين مفارقة بين التراث الذي «يجمع» الماضي والحاضر، وبين «الميراث» الذي يوزع أنصبة بين الورّاث، وبذا يكون الاول مادة موضوعية بحد ذاته و«ماهية ذاتية» متواصلة في شخصية شعب من الشعوب او امة من الامم، مما يسبب تماهياً بين «الموضوع» و«الذات».
عبّ يوسف زيدان من التراث بوعي ونضوج كاملين، معتزاً بالتراث العربي اعتزازاً بعروبة حضارية عميقة تتجلى في كل مؤلفاته دون تفريق بين عربي وآخر.
جوهر واحد
وهكذا بدا التراث الابرهيمي عنده واحداً لا يتجزأ يضم اليهودية والمسيحية والإسلام، وهي «أديان سماوية» ذات جوهر واحد، وعنده أن كل الاديان سماوية لان غرضها التعالي والتسامي، والموحد بالله لا يحرم مؤمنا ولا كافرا من نِعَم الله وعطائه، ويتورع عن اتهام الناس بالكفر، ولو كانوا وثنيين او براهمة او بوذيين: وهذه هي الاخلاق النورانية الإلهية التي تلزم «رجل الله» ان يكون صدى الإله، الذي يتعبّد له، بعقله وقلبه ووجدانه. بيد ان من يسمون «رجال الدين»، في كل المعتقدات، لم يكونوا في معظمهم دوماً صدى لصوت الإله المحب والعادل.
«رجال الدين» أجناس
يرى يوسف زيدان في «رجال الدين» اجناساً. فمنهم المنصرف الى التأمل والتعبد وحب الكائنات، حجراً وطيراً وبشراً، ومنهم المنغمس في الطقوس، الغائب عن سر الخالق في مخلوقاته، أو في «عجيب صنع الله في خلقه» على حد عبارة ابي عثمان الجاحظ، ومنهم من اتخذ الدين حانوتاً للتجارة، محتسباً الربح والخسارة لا الورع والتقوى، فيصير دينه تديناً فيه الشوائب الكثيرة.
من هذا المنطلق الرائع وجد زيدان في المتصوفة الحقيقيين والرهبان الصادقين وفي كل من يتحلى بأخلاق البارئ، صدى للواحد الأعظم، وهو يخشع لمتصوفة الاسلام الابرار الذين قادهم صدق ايمانهم الى الوقوف في وجه الحكام الطغاة، ملاقين الصلب على الأعواد، دون تراجع وخوف وتهيب، مسطّرين بمواقفهم صفحات خزي للظالمين الذين سفكوا الدماء وزهقوا الأرواح على مذابح «التدين» لا الدين البراء من سلع تُشرى وتباع في أسواق النخاسة الطائفية والمذهبية والعصبية الشيطانية المناصرة للباطل.
كل اضطهاد ممقوت
اذ كل اضطهاد باسم الدين ممقوت يقدم عليه اشخاص اعتبروا انفسهم «نواب الله»، فحاسبوا على الأفكار والأفئدة وتسببوا بالمحنة والبلاء للحلاج، واضطهدوا الطبري، ولاحقوا البخاري، وطاردوا طه حسين، وتعرضوا شخصياً لزيدان، الذي قضى عمره في ترميم الذاكرة ونشر آلاف الصفحات من تراثنا المطمور تحت أغلقة الجهل والغفلة، مظهراً التاريخ الصحيح للاضطهاد، في ماضينا العربي والاسلامي، اذ ان: «ميراث الاضطهاد يندفع دوماً باضطهاد مضاد»، ما قال الراهب هيبا في رواية عزازيل، وقد غفل الغافلون عما قاله الصوفي الكبير نجم الدين كُبرى من أن «الطرق الى الله على عدد انفاس البشر»، وان التصوف هو تذوق للشريعة، وان الدين نص قابل للتأويل، وان «كل اسلام لا يصحبه الايمان لا يعوَّل عليه»، وان «المحبة ان لم تكن جامعة لا يعول عليها»، على حد تعبير الشيخ الأكبر ابن عربي، أو كما يقول السيد الرفاعي في «حفيف أجنحة جبرائيل» بالحق: «تنطمس الحيرة وتنجلي الحرية وتسقط القيود».
وبالفعل، فان العرب ابدعوا عندما تجلت الحرية وساد التسامح وانبثق الفكر مشعاً على الدنيا.
{الهلاك الجديب}
وبعد، صاحب النبطي وعزازيل ومحال واللاهوت العربي ودوامات التدين ومتاهات الوهم وسواها، استهواه الهلال الخصيب بانشغالاته الدينية المستمرة احقاباً بعد احقاب، بأشكالها المتنوعة: لاهوتاً وعلم كلام وفقهاً، منتهية في أكثر الأحايين بعنف لا يبقى ولا يذر.
وها هو في طرابلس الفيحاء، القاهرة الصغيرة بمبانيها التراثية، التي تأبى أن تكون قندهار، والتي تود أن تبقى كالاسكندرية وبخارى القديمتين، تقيم في العشر الأواخر من رمضان «ختم البخاري» في مسجد اميرها طينال.
وها هو في خضم هذا الهلال الخصيب، الذي يمور بالتحركات، وقد اشتعلت الحرائق فيه وفي كل الدنيا العربية، وشعوبنا، وسط الصراعات والأطماع، من الأقربين والأبعدين، تتطلع الى الحرية والكرامة وحقوق الانسان، وهي تأمل ألا يتحول الهلال الخصيب وسواه الى «الهلاك الجديب»، الذي لا تلمع فيه، واأسفاه ويا للعار، الا نجمة اسرائيل الغاصبة.
لقد أبنْتَ أيها الكاتب القدير، عن جدلية العلاقة بين التدين والعنف والسياسة في كل رواياتك وابحاثك ومؤلفاتك، ببيان عربي فصيح، وبلغة صافية فيها فيض من سجع أليف وبناء روائي منيف، وشعر رهيف، فصرت مستحقاً كل تكريم.
(*) عضو المجلس الدستوري في لبنان
(عن الزميلة النهار)