Quantcast
Channel:
Viewing all articles
Browse latest Browse all 8691

ديموقراطية المعرفة تفرض نفسها

$
0
0

هناك «إنسان جديد» رأى النور، يقول الأكاديمي الفرنسي ميشال سيريس، إنه كائن لقبه بمؤنث «الإبهام الصغير»، نظرا لقدرته على بعث الرسائل الهاتفية القصيرة بواسطة إبهامه. إنه يمثل تلاميذ اليوم، الذين يعيشون في رحم تسونامي حقيقي، ناتج عن التحول الهائل الذي يعرفه العالم حولهما. نحن نمر بمرحلة تتميز بانقلاب كبير مماثل لنهاية الإمبراطورية الرومانية أو لعصر النهضة.

وعلى «الإبهام الصغير» أن يتأقلم بسرعة فائقة، سرعة تفوق تلك التي كانت مفروضة على آبائه وأجداده بكثير. إننا في حضرة تحول جذري يصحبنا ميشال سيريس بأحكامه القاسية على المؤسسات والأحزاب السياسية وكل ما تبقى من الآليات، التي هدفها انتخاب الرؤساء بلا مبادئ سامية. والمؤلف صادق، بحكم تجربته وصرامة أفكاره في حكمه على أزمة التدريس الحالية، وهو مصيب أيضا في نظرته إلى تحولات اللغة، وتحولات الفكر أيضا.

يبحث الجيل الجديد عن العمل، وحين يعثر عليه، يبقى دوما مستمرا في عملية البحث، لأنه يدرك أنه سيفقد العمل الذي وجده بين عشية وضحاها.

وعلاوة على العمل، ففتاة الجيل ترد على من يحدّثها في الشركة، ليس على السؤال الذي طرحه عليها، وإنما بطريقة تسمح لها بالاحتفاظ بعملها.. لقد أصبح هذا الأسلوب يضر الجميع.

تشعر فتاة الجيل الجديد بملل كبير في العمل، وأما جارها النجار الذي كان في الماضي يتلقى ألواحا خشبية خام، قطعت من أشجار الغابة، وتم تجفيفها لفترة طويلة، ليحولها وفق الطلبيات إلى كراسي أو طاولات أو أبواب، ها هو اليوم، وبعد ثلاثين عاما، يتلقى من المصنع نوافذ جاهزة، ما عليه سوى بيعها بعد وضع بعض الروتوشات عليها. إنه يشعر بالملل، وهي أيضا.

 

العمل والإنتاج

وأهمية العمل لا تكمن فقط في مكاتب الدراسات، ورأس المال لا يعني فقط تمركز المال وإنما يعني أيضا توافر المياه في السدود، والثروات الطبيعية تحت الأرض. والملل من كل هذا يأتي من هذا التركيز ومن هذا التحايل.

تتضاعف الإنتاجية منذ عام 1970، وتضاعف معها النمو الديمغرافي العالمي أيضا، ما تسبب في ندرة العمل، فهل أصبح العمل حكرا على الطبقة الارستقراطية؟

لقد رأت فتاة الجيل الجديد أن عدد أفراد طبقة الياقات السوداء (أي الطبقة العاملة) في تناقص، فيما تمكنت التكنولوجيات الحديثة من صهر الياقات البيض (أي مديري المؤسسات وكوادرها).

هل سيختفي العمل، وإن كانت المنتجات تغرق الأسواق، وتضر البيئة بفضل عمل الماكينات وعملية نقل البضائع؟ كل هذا مرتبط بمصادر الطاقة، التي يتسبب استغلالها في تلويث البيئة وهدر الثروات الطبيعية.

تحلم فتاة الجيل الجديد بعمل جديد، الهدف الرئيس منه، هو إصلاح الأضرار وأن يكون مفيدا لأصحابه، إنها لا تتحدث عن الراتب، وإنما عن السعادة.

ولأن عدد سكان الأرض تزايد، ما عاد أمام المجتمعات سبيل للنظام، سوى الالتفاف حول العمل، إنهم يلتفون حوله، ويغامرون مغامراتهم الخاصة حوله ايضا، على الرغم من عدم وجود أي علاقة لذلك بالعمل.

تأمل فتاة الجيل الجديد أن تزدهر حياتها، لكنها على العكس، تشعر بالملل يوما بعد يوم، إنها تبحث عن تصور لمجتمع لا يبنيه أحد.. مجتمع يقوم على مقومات عدة.

 

في المستشفى

إنها تتذكر أيضا الزيارة التي قامت بها لمستشفى كبير، دخل إلى غرفتها دون أن يدق الباب مثل حيوان مستأسد وراءه قطيع. كان يلقي خطابا ويدير ظهره لفتاة الجيل الجديد، التي كانت مستلقية على السرير، وتفترض عدم كفاءة الجميع من حولها.

مثلما في الجامعة والمكتب، كانوا يتحدثون بطريقة شعبية، وكأن الفتاة حمقاء والمتثاقل في المشي هو الشخص الذي لا يستطيع التماسك من دون عصاه.. وهذه العصا هي مصدر جميع عُصياتنا وأمراضنا.

شفيت فتاة الجيل الجديد ونهضت من فراشها، وقالت: كلما تقدم الوقت، تراجعت حاجة الإنسان لهذه العصا. إنها تقف بمفردها.

اسمعوا، تتوافر المستشفيات العمومية في المدن الكبرى على مجموعات كبيرة من الكراسي والأسرّة المتحركة، سواء في الاستعجالات أو قبل أو بعد الرنين المغناطيسي او الاسكانر، وقبل الدخول لقاعة الجراحة وفي التخدير وبعد الاستيقاظ من العملية.. هنا بإمكاننا أن ننتظر من ساعة إلى عشر ساعات.

من يدعو ومن لا يدعو، أو حزن من لا ترد وصمت البعض ورعب البعض الآخر.. من تسمع آذانه هذه الأصوات، يعرف دون شك الألم، لكنه يجهل ماذا تعني كلمة «نحن نعاني»، حيث كل واحد ينتظر قضاء القدر. ولو طرحتم السؤال التالي على أنفسكم: ما الإنسان؟ ستعرفون أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في هذا الهرج والمرج، الذين تتجاوبون فيه مع الآخر وتستمعون لآلامه وأناته.

هذا هو الصوت العميق، صوت الإنسان الذي يغلف أحاديثنا وهمساتنا.

 

الأصوات الإنسانية

هذه الفوضى لا نجدها فقط في المدارس والمستشفيات ولا تصدر عن شباب الجيل الجديد في الأقسام، إنها تملأ كل مكان من عالمنا. فالأساتذة أنفسهم يصدرون فوضى حين يحدثهم الناظر، وأفراد الدرك يتحدثون حين يأمرهم الجنرال والمواطنون يهمس بعضهم لبعض، حين يتجمّعون في الساحات للاستماع إلى رئيس البلدية ولغة الخشب التي يفضلها بدل الحديث عن همومهم.

تقول فتاة الجيل الجديد «اذكروا لي تجمعا واحدا يحضره الكبار، من دون أن يتحول إلى هرج ومرج».

لقد أصبح عدد هذه الأصوات الحقيقية (الموسيقى ووسائل الإعلام والأسواق)، بالإضافة إلى الأصوات الافتراضية التي تصدر عن المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي، يضاهي عدد سكان المعمورة.

للمرة الأولى في التاريخ أصبح بمقدورنا الاستماع إلى أصوات الجميع. لقد أصبح صوت الإنسان يثير جلبة في الفضاء وعبر الزمن، فيما كان الهدوء والصمت يخيمان في السابق في قرانا، حيث كنا لا نسمع غير الأجراس وهي تُقرع إيذانا للدعوة إلى الصلاة.

أصبحت الظاهرة عامة لدرجة أنها ما عادت تثير انتباهنا، فهذه الفوضى الحقيقية والافتراضية، وهذا الصوت الجديد، أعادا إنتاج تسونامي الأقسام والمدرجات.

هذه الدردشات التي تتم عبر الإبهامين على الهواتف النقالة، وفوضى العالم هل هي بمنزلة الإعلان عن ميلاد عصر جديد للكتابة؟ وهل ستقضي هذه التكنولوجيات على عصر الصفحة؟

منذ فترة طويلة وأنا أسمع عن العصر الشفهي الجديد الذي ولّده العالم الافتراضي.

إنه طلب عام للحديث، شبيه بالطلب المنفرد الذي سمعه فتى الجيل الجديد منذ المدرسة وحتى الجامعة، ويسمعه المرضى في المستشفيات أو الموظفون في العمل. الجميع يرغبون في الكلام، الجميع يتصل مع الجميع عبر العديد من الشبكات.

إنها دمقرطة جديدة للمعرفة، بدأت تترسخ في كل الأماكن، بحثا عن مشروعية قانونية لها لا مصاعب. إنها ديموقراطية في طور التكوين، لكنها ستفرض نفسها غدا.

 

الشبكات الاجتماعية

في هذه النقطة بالذات، تناجي فتاة الجيل الجديد والديها، حيث تقول: هل تلومونني على أنانيتي، لكن من يبينها لي؟ هل تقصدون فرديتي، لكن من علمني إياها؟

أنتم، هل استطعتم أن تشكلوا فريقا؟ أنتم غير قادرين على العيش بعضكم مع بعض، فتنتهون إلى الطلاق. هل تعرفون كيف تؤسسوا حزبا سياسيا، وتحافظوا على استمراريته؟ هل تحسنون تشكيل حكومة، حيث يبقى كل واحد فيها متضامنا مع الآخر لفترة طويلة؟

أنتم تسخرون من شبكاتنا الاجتماعية، واستعمالنا الجديد لكلمة «صديق».. هل نجحتم يوما ما في جمع هذا العدد المعتبر من الناس ومن المجموعات؟

إنكم تخافون دون شك من ظهور أشكال سياسية جديدة انطلاقا من هذه المحاولات، ما قد يكنس الأشكال الحالية.

إنها أشكال افتراضية وفق فتاة الجيل الجديد، تحركها فجأة الأمة والكنيسة والشعب والقسم والطبقة العمالية والعائلة والسوق.. هنا التجريد، حيث بإمكاننا الطيران فوق الرؤوس كتمائم ورقية.

تقولون هل تجسدت هذه الأشكال؟ تجيب فتاة الجيل الجديد: نعم، لكن إلا إذا عانى الإنسان ثم مات. هذه الأشكال دموية، تتطلب أن يضحي كل واحد بحياته: وكالشهداء والنساء اللواتي تم رجمهن، والزنادقة الذين حُرقوا أحياء، والساحرات المزعومات اللواتي حُرقن، هذا هو الحق وهذا ما تقره الكنائس. هذا بالنسبة للوطن وصراع الطبقات، أما العائلة فتعتبر مسرح نصف الجرائم، حيث تموت امرأة كل يوم على يد زوجها أو عشيقها، وأما على مستوى العالم، فيموت فتى من الجيل الجديد كل بضع دقائق من سوء التغذية.

لقد أصبحنا نعد الضحايا بمئات الملايين منذ بضعة عقود.

وأمام هذه الانتماءات الدموية، أفضل العالم الافتراضي الذي لا يطلب الموت والتضحية من احد. لا نرغب أبدأ في أن تتلوث مجالسنا بالدم، فالعالم الافتراضي يتجنب على الاقل هذا. يجب ألا نؤسس مجموعة على وقع مجزرة، هذا هو مستقبل حياتنا في مواجهة تاريخكم وسياسات الموت التي تتبعونها.

هكذا كانت فتاة الجيل الجديد تتحدث بحيوية.

 

المحطات والمطارات

تقول: استمعوا أيضا إلى الأصوات التي تصدرها المجاميع الهادئة وهي تمر. منذ فترة طويلة تضاعفت الرحلات لدرجة أن مفهوم السكن تحول، فبلد مثل فرنسا أصبح بسرعة، مدينة يقطعها القطار السريع والمترو والطرقات السريعة التي أصبح عددها ينافس عدد الشوارع.

منذ عام 2006، نقلت شركات الطيران ثلث سكان المعمورة عبر المطارات ومحطات القطار.

حاولت فتاة الجيل الجديد من بيتها حساب الفترة الزمنية التي استغرقتها هذه الرحلات، لكن هل تعرف هذه الفتاة أين تقيم أو تعمل؟ وإلى أي مجتمع تنتمي؟

إنها تقيم في ضاحية من ضواحي العاصمة على مسافة من وسط المدينة والمطار، تكفي للقيام بعشر رحلات إلى ما وراء الحدود. إذن إنها تقيم في مجتمع حضري يمتد إلى خارج مدينتها وأمتها.

سؤال: أين تقيم إذن؟ هذا المكان الذي يطرح هو الآخر سؤالا سياسيا، لأن كلمة السياسة تشير إلى الحي، الذي يمكن أن تقول من خلاله بأنها مواطنة. وهذا انتماء آخر متذبذب.

من أتى؟ ومن أين ليمثلها، وهي التي تطرح أسئلة عن مكان سكنها؟

أين؟ في المدرسة وفي المستشفى، نحن بصحبة أناس من مختلف الجهات وفي العمل وفي الطريق نرى أجانب مع مترجمين وآخرين يتحدثون لغات أخرى، إنها تخالط من دون توقف العديد من الأجناس البشرية التي تنتج خليطا من الثقافات والمعارف التي اكتسبتها خلال تكوينها. يجري الخليط الإنساني مثلما تجري المياه في الأنهار. فتاة الجيل الجديد تسكن في نسيج مركب، وفضاء تلاشت فيه كل الحواجز.

 

الحلقة الخامسة: المعلومات سلطة خامسة تضاهي السلطات التقليدية


Viewing all articles
Browse latest Browse all 8691

Trending Articles