
هناك «إنسان جديد» رأى النور، يقول الأكاديمي الفرنسي ميشال سيريس، إنه كائن لقبه بمؤنث «الإبهام الصغير»، نظرا لقدرته على بعث الرسائل الهاتفية القصيرة بواسطة إبهامه. إنه يمثل تلاميذ اليوم، الذين يعيشون في رحم تسونامي حقيقي، ناتج عن التحول الهائل الذي يعرفه العالم حولهما. نحن نمر بمرحلة تتميز بانقلاب كبير مماثل لنهاية الإمبراطورية الرومانية أو لعصر النهضة.
وعلى «الإبهام الصغير» أن يتأقلم بسرعة فائقة، سرعة تفوق تلك التي كانت مفروضة على آبائه وأجداده بكثير. إننا في حضرة تحول جذري يصحبنا ميشال سيريس بأحكامه القاسية على المؤسسات والأحزاب السياسية وكل ما تبقى من الآليات، التي هدفها انتخاب الرؤساء بلا مبادئ سامية. والمؤلف صادق، بحكم تجربته وصرامة أفكاره في حكمه على أزمة التدريس الحالية، وهو مصيب أيضا في نظرته إلى تحولات اللغة، وتحولات الفكر أيضا.
أمام كل هذه التغيرات، كان يجب اختراع أشياء جديدة لم نتصورها من قبل، بعيدا عن الكوادر التي عفا عليها الزمن، وعن وسائل الإعلام وعن مشاريعنا الغارقة، في مجتمع يغلب عليه الطابع التهريجي. أرى أن مؤسساتنا تومض ببريق، يشبه بريق مجموعة النجوم، التي يقول علماء الفلك إنها أفلت منذ فترة طويلة.
لماذا حلّت بيننا هذه المنتجات الجديدة؟ أخاف أن أتهم الفلاسفة وأنا واحد منهم، وهم أناس موهوبون في توقع المعرفة، وما يحصل مستقبلا، والذين يبدو لي أنهم فشلوا في مهمتهم، ذلك أنهم انخرطوا في عالم السياسة.
وإذا ما كان عليّ أن أرسم صورة للكبار، وأنا واحد منهم، ستكون هذه الصورة الصحفية أقل تملقاً وتزلفاً.
أود أن أكون في الثامنة عشرة، عمر الفتى أو الفتاة في الجيل الجديد، لأن عليّ أن أعيد كل شيء وأن أكتشف الجديد.
آمل أن تمنحني الحياة المزيد من الوقت حتى أعمل إلى جانب هؤلاء الشباب الذين كرسّت حياتي من أجلهم، والذين لا أزال أحبهم باحترام.
المدرسة
في كتاب «الأسطورة الذهبية» يروي المؤرخ اللاهوتي جاك دو فوراجين أن معجزة وقعت في لوستيسا (باريس اليوم) في فترة الاضطهاد، الذي كان يمارسه الإمبراطور دوميسيان. لقد أوقف الجيش الروماني دنيس الذي انتخبه أوائل مسيحيي باريس أسقفا، ثم سجنوه وعذبوه في جزيرة المدينة، وصدر حكم بضرب عنقه في قمة هضبة تدعى مونتمارتر.
صرف الجنود النظر عن فكرة بلوغ قمة الهضبة في منتصف الطريق، من فرط كسلهم. وقاموا بقطع رأس الأسقف. لكن ما وقع فيما بعد كان رهيبا، لقد وقف دنيس ورفع رأسه من على الأرض ثم ثبته من جديد على جسده بكلتا يديه وواصل صعود الهضبة.. إنها المعجزة.. تملك الرعب الجنود، فأطلقوا الريح لأرجلهم هاربين من مصير مجهول.
أضاف الكاتب أن دنيس ارتاح بعض الوقت واغتسل وغسل رأسه في نبع، ثم أكمل طريقه إلى غاية سانت دنيس الحالية، وبهذا تم تمجيده بإطلاق اسمه على المدينة.
تفتح الفتاة من الجيل الجديد حاسوبها، وإذا لم تكن تتذكر هذه الأسطورة، فإنها تجدها بين يديها مع احتياطي كبير من المعلومات المنتقاة والمكتوبة بشكل جيد، لأن محركات البحث إذا ما رغبنا في البحث، لا تقصّر في تزويدنا بالنصوص والصور. وهناك عشرات الأنظمة التي يمكن أن تعالج هذه المعطيات التي لا تحصى بشكل أسرع مما يمكن أن تفعله هي: أي الفتاة.
إنها تحمل المعرفة التي كانت يوما ما معرفة داخلية، خارج جسدها مثلما حمل دنيس رأسه الذي كان بعيدا عن رقبته. هل تتصورون هذه الفتاة وقد قطع رأسها؟ إنها معجزة!
مؤخرا، أصبحنا كلنا مثل سانت دنيس ومثلها هي. لقد خرج عقلنا الذكي من رأسنا المكون من عظم وخلايا عصبية. إنه بين يدينا وليس علينا سوى تشغيل جهاز الحاسوب.. في الواقع الكليات التي كنا نسميها نحن في السابق «ذاكرة»، والتي تفوق ذاكرتنا ألف مرة لا يمكن مقارنتها بكم المعلومات التي تتدفق عبر الكمبيوتر ولا الأنظمة المعلوماتية التي تستطيع حل 100 مشكلة، لا نستطيع حلها بمفردنا.
ماذا تحمل رؤوسنا؟
رأسنا ملقى أمامنا في هذه العلبة المعرفية الحسية، فماذا بقي على كتفينا؟
يسمح لنا التعلم بالاختراع، فهل حكم علينا بأن نصبح أذكياء؟
حين ظهرت الطباعة فضل مونتاني أن يكون العقل مثقلا بالمعرفة، لأن هذا التراكم هو ما نجده في الكتب المصفوفة فوق رفوف المكتبات. وقبل غونتبرغ كان يجب على من يدرس التاريخ حفظ مآثر المؤرخين اليونانيين ثوسيديد وتاسيتوس، وكان على من يهتم بالفيزياء حفظ ما وصل إليه أرسطو عن ظهر قلب، وحفظ مآثر ديموستين وكانتيليان في فن الخطابة.. وبهذا الشكل سيكون لدينا رأس مملوء جدا.
وأما في الاقتصاد، فتذكر مكان الكتاب في المكتبة أقل كلفة وعناء على الذاكرة مقارنة بحفظه.. وأما الاقتصاد الجديد فقد تغيّر تماما، ولا حاجة لنا بتذكر المكان، لأن محرك البحث سيتكفل بذلك.
من الآن فصاعدا، سيختلف تماما رأس الشابة المقطوع عن رؤوس المسنين، لن تجتهد كثيرا حتى تحفظ المعرفة، لأن كل شيء أمامها بشكل موضوعي، وقد تمت مراقبته عشرات المرات.
فضل الكتابة
لكن كيف حدث هذا التغير الإنساني؟ نحن نعتقد من خلال ممارساتنا، أن الثورات تحصل حول الأشياء المادية، وأننا نمنح أسماءها لبضعة فترات من التاريخ كالثورة الصناعية والعصر البرونزي والعصر الحديدي والعصر الحجري.
وقد فجّر اختراع الكتابة، ومن ثم الطباعة، وإن كان ذلك متأخرا، الثقافات والمجموعات أكثر من الوسائل، فالشيء المادي تظهر فعاليته على الأشياء في العالم، وأما الأمور غير المادية فتأثيرها يبدو بشكل واضح على المؤسسات. وأما التقنيات فتقود أو تعرض العلوم المادية، بينما التكنولوجيات تعرض وتقود العلوم الانسانية والتجمعات العامة والسياسة والمجتمع.
فلولا الكتابة، هل كنا سنجتمع في مدن؟ وهل كنا حصلنا على حق؟ وهل استطعنا تأسيس دولة واختراع العلوم الدقيقة؟ ولولا الكتابة هل كنا سنستطيع تأمين استمرارية ما خلّفه السابقون من علوم؟ ولولا الطباعة، هل كنا سنلج باب النهضة؟ وهل استطعنا تغيير مجموع المؤسسات والمجالس؟
فضاء الصفحة
والكتابة في شكلها المطبوع منتشرة اليوم في كل مكان، لدرجة أنها غزت وأخفت المناظر الطبيعية، من خلال الإعلانات وعلامات الطرق وأسمائها، والشوارع والمواعيد في محطات القطار ونتائج المباريات في الملاعب والترجمة في دور الأوبرا والأناجيل في الكنائس والمكتبات الجامعية والمجلات والجرائد.. لقد أصبحت الصفحة مسيطرة، وباتت تقودنا، وأما الشاشة فتعيد إنتاجها كل مرة.
تغيّرت الصفحة بين الماضي والحاضر، فصفحات السجلات العقارية في المناطق الريفية أو مخططات المدن أو تصاميم المهندسين المعماريين أو مشاريع البناء أو رسومات الصالات العامة، تختلف عن صفحات أجدادنا التي كانت مشبعة ببقايا نباتات الأرض، وقد ترك عليها المزارع آثار ثلم الحقل وسكة المحراث. هذه هي الوحدة الفضائية للقدرة على الفهم والتفكير وإقامة المشاريع.
التكنولوجيات الحديثة
إن شكل الصفحة يسيطر علينا وعلى المعرفة بطريقة لم تستطع التكنولوجيات الحديثة تجاوزه، فشاشة الكمبيوتر نفسها تفتح في شكل كتاب، والشباب لا يزالون يكتبون عليها وعلى الهاتف النقال بفضل أصابعهم الخمسة.
انتهى العمل، هاهي تتحول إلى الطباعة.
أتذكر الدهشة التي تملكتني قبل بضع سنوات في جامعة ستانفورد، حيث درست قبل 30 عاما، بسبب تطور المدينة. لقد عشت في وادي السيليكون، وهي المنطقة الجنوبية من خليج سان فرانسيسكو، التي تشتهر عالميا باختراعاتها وتطورها التكنولوجي.
تدرس الهندسة الميكانيكية منذ قرن في هذه الجامعة، التي لاتزال تحتفظ بقاعاتها وممراتها وشكلها المستوحى من شكل صفحة. وكأن الثورة الحديثة التي تعد أقوى على الأقل من ثورتي الطباعة والكتابة، لم تغير شيئا في المعرفة والبيداغوجيا، ولا الفضاء الجامعي نفسه، الذي اخترع في السابق من أجل الكتاب.
ولكن لا، هذا الأمر غير صحيح، فالتكنولوجيات الحديثة أجبرتنا على الخروج من الشكل الفضائي المرتبط بالصفحة والكتاب.. فكيف ذلك؟
قصة قصيرة
في البداية، أقول إن الأدوات التي نستعملها يوميا، تقوم بإخراج قوتنا من أجسادنا ومن عضلاتنا ومفاصلنا، نحو آلات بسيطة لتوظيفها، فترتفع حرارتنا وتتحرك الماكينات في النهاية. والتكنولوجيات الحديثة هي الأخرى تقوم بإخراج الرسالة، والعملية التي تدور في النظام العصبي والمعلومات والقوانين والمعرفة في جزء منها، تجاه هذه الأداة الجديدة التي هي الكمبيوتر.
فماذا بقي إذن فوق الأعناق المقطوعة لسانت دنيس في باريس، وبنات وأولاد اليوم؟
الفتاة تتأمل
فكري يختلف عن المعرفة، ومسار المعرفة والذاكرة والخيال والاستنتاج والهندسة التي تعمل الخلايا العصبية والمشابك على إخراجها في الكمبيوتر. والأفضل لي أن أفكر وأن أخترع، إذا ما ابتعدت عن هذا النوع من المعرفة. وإذا ما ابتعدت سأتحول إلى هذا الفراغ وهذا الهواء الذي لا يمكن إدراكه حسيا، وإلى هذه الروح التي تترجم الرياح كلماتها. أنا أفكر بهدوء الآن أكثر من هذا الشيء الهادئ.
لو أن مونتاني شرح الطرق التي يحول بها العقل الأفكار إلى عجائب، لرسم كيسا للتعبئة ورأسا مملوءا. ولو أردنا أن نرسم اليوم هذا الرأس الفارغ، لرسمناه يسقط في الكمبيوتر. لا.. لا تقطعوه من أجل أن تستبدلوا به رأسا آخر.. لا تُعبّروا عن مللكم من هذا الفراغ.. عليكم أن تتشجعوا، فالمعرفة وأشكالها والعلم وطرقه، وكل الخلاصات والشروحات التي كان يقدمها المؤلفون في السابق أسفل الصفحات، والتي كنت أتهم بنسيانها، كلها سقطت في هذه العلبة الالكترونية. أمر غريب.. لقد تغير موضوع الفكر، فالخلايا العصبية المنشطة تختلف عن الخلايا العصبية المسؤولة عن الكتابة والقراءة في رؤوس أسلافنا.
العرض والطلب
هذه الفوضى الجديدة، وهذا الصخب يعلنان عودة البيداغوجيا ثم السياسة، وفق أشكال مختلفة. في السابق كان التعليم يعني العرض وكانت المعرفة مخزنة في صفحات الكتب، ويجب على المعلم أن يقرأها ويبينها للتلاميذ بعد أن يطلب منهم الانتباه والاستماع والهدوء. وكان العارض يردد دوما هدوء.. صمت.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ما الذي علينا فعله، حين يجب علينا التنقل لاكتشاف معلومة ما نادرة وسرية؟ أصبح العرض كبيرا جدا ويفوق الطلب، فهل يعود السبب إلى المدرسة؟ أنا أقول إن السبب سياسي، فهل انتهى عصر الخبراء؟
نبدأ حياتنا أطفالا ملتزمين بالصمت داخل صفوف المدرسة، وهادئين لا نتحرك مثل أي صورة ثابتة، كانت جيوبنا فارغة، وكنا مطيعين، ولم نكن خاضعين فقط للمعلم، ولكن أيضا للعلم الذي كان المعلمون يخضعون له ايضا.
هم ونحن كنا نعتبر العلم سيدا وساميا، لكن لا أحد تجرأ على تحرير وثيقة طاعة إرادية للعلم، حتى أن البعض كانوا مرعوبين من العلم، مما كان يحول دون تعلمهم.
والفلسفة تتحدث أحيانا عن العلم المطلق، إنه يتطلب ظهرا منحنيا مثل ظهور إسلافنا.. يقال لا وجود لديموقراطية في التعليم، وهذا أمر خاطئ، فمن يملكون السلطة يملكون العلم، لكن العلم يتطلب أجسادا مذلولة بما فيها أولئك الذين يملكونه.
لقد كان المعلمون يلمحون إلى هذا المطلق الغائب في دروسهم، هذا المطلق الذي لا نستطيع اقتحامه ولا معرفته ولا الوصول إليه.. وكان التلاميذ يقفون مشدوهين أمامهم ولا يتحركون.
على شاشات الكمبيوتر
إلى هذا الصباح لايزال المعلم في القسم أو الأستاذ في الجامعة يدرس علما، وأما مرجعه فصفحات الكتاب، لكنه إذا ما قرر اختراع شيء، وهو أمر نادر، سيخترع صفحة على الإنترنت. يتزايد الفوضويون في الصفوف الدراسية من مرحلة إلى اخرى، مما يحول الدرس او قراءة كتاب إلى عقاب.
هذه الظاهرة عامة، وأثارت انتباه الكثيرين. فتاة الجيل الجديد لا تقرأ ولا ترغب أبدا في رؤية شيء مكتوب، ولكن رغم ذلك هي فوضوية، تُرى لماذا تتحدث كثيرا وهناك هرج ومرج حين تلتقي أصدقاءها؟ ببساطة، لأن هذه المعرفة التي تلقتها في شاشة الكمبيوتر، اطلع عليها الجميع. إنها موجودة وكل شيء مشروح، وفيه من الوثائق والبيانات الصحيحة التي لا نجدها في أفضل المعاجم.
الحلقة الثالثة: الكمبيوتر والإنترنت وضعا حدّاً للمفاهيم التجريدية