
يقوم أي عملٍ روائي على أربعة أركان: الحدث، الشخصية، الزمان، المكان.
وعلى ضوء هذه الأركان الأربعة وشبكتها العلائقية، يمكن تناول العمل الروائي بالنقد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأركان تتراوح فيما بينها توهجاً وإشعاعاً، مما قد يجعل أحدها ركيزة رئيسية يقوم عليها أساس العمل كله، ومن ثم تتسلسل بقية الأركان تتابعياً حسب قوة الحضور ووثوق العروة.
وقد ميز الرواية المعنية «ها هو اليتيم بعين الله» لمحمد رضا سرشار (ترجمة د. بتول مشكين فام) توازي ركنين أساسيين على مستوى الأهمية، وهما الحدث والشخصية، فجاء من بعدهما الزمان، وأما المكان فلكون الرواية تاريخية فقد جاء بطبيعة الحال مقيَّداً بوقائع ما جاء في كتب التاريخ من أمكنة جرت عليها أحداث الرواية، وهذا لا يعيب العمل أبداً.
ترتبت سردية الرواية بنسق مموسق بين المستويات الثلاثة (الحدث، الزمان، الشخصية)، مما أضفى على العمل هالة تتوهج فيها إمكانية التأويل لتحول القضية الرئيسية للرواية (صراع ذرية عبدالمطلب مع قريش) إلى رمزٍ يسكن فيما وراء النص.
الزمان
على مستوى الزمان، بدا التداخل واضحاً كزيّ يميز القالب السردي، فبالرغم من تتابع أحداث الرواية كخرز المسبحة، فإن لحظات الحلم، والتذكر والاسترجاع، التي كانت تمر بها بين الفينة والأخرى شخصيات الرواية، كانت تمزج الأزمنة بعضها ببعض، ليتوقف الزمن الحاضر عند لحظة معينة تسترجع فيها إحدى الشخصيات ذكرى زمنٍ ماضٍ، أو تستبصّر رؤيا من رؤى المنامات كمثل ما كان يجري مع شخصية «عبدالمطلب»، ومن ثم يرجع تتابع الأحداث مرة أخرى، وقد تخلل حاضره لحظة ماضٍ، أو رؤيا لمستقبل.
الحدث والشخصية
أما على مستوى الحدث والشخصية، فيمكن لأي ناقد وبكل ثقة استطلاع بؤرة النص من خلال المزاوجة بين حدثين رئيسيين تقوم عليهما أحمال الرواية كلها.
تبدأ الرواية بحدث مهم، وهو بحث عبدالمطلب، سيد قريش وسادن الكعبة، عن بئر زمزم، محاولا إنهاء أزمة قحط وعطش مرت بها مكة وأهلها، تراوده الرؤيا لأيام أربعة، فيبدأ وابنه الحارث عملية البحث ومن ثم الحفر، فيتكالب عليه كبار قريش ورؤساء بطونها وفتيانها، فهم على علم تام برمزية هذه البئر كسلطة تكفل لصاحبها (من يجدها) السيادة على أهل مكة قاطبة، فتعرقل عمل عبدالمطلب وابنه، وبين الشدّ والجذب والنزاع المستمر، يبحث القوم عن حكم لهذا النزاع، وفي سبيل ذلك يسافرون إلى يثرب في طلب الحكم، وفي الطريق يحل عليهم العذاب على شكل تيهٍ في طريق يثرب القاحل، فلا يخلّصهم من هذا العذاب إلا رجاحة عقل عبدالمطلب وحكمته وتقواه (منزلته عند الله)، فيكتفون بما رأوه من إنذار ويرجعون إلى مكة، وقد ردّوا السلطة والسيادة مسلِّمين إلى صاحبها عبدالمطلب. بعد أن يجد عبدالمطلب البئر، يلتفت إلى ما ابتلي به من عداوات يضرمها القوم له، فيدرك أنها جاءت نتيجة لكونه بلا ذرّية كثيرة تكفل له الحماية، فيطلب من ربه ذرية كثيرة، ناذراً أحد أبنائه للذبح، فيستجيب الله له ويعفيه من ذبح أحد أبنائه بعد افتدائه بمائةٍ من الإبل.
تنتقل بؤرة الصراع من الشخصية الرئيسية الأولى عبدالمطلب لتصل إلى عبدالله، الذي يقضي نحبه مبكراً في رحلته الى الشام، ومن عبدالله تنزاح البؤرة مرة أخرى الى الشخصية الرئيسة الأخرى محمد -صلى الله عليه وسلم-، لتختلف الشخصيات ظاهراً وتتحد رمزاً، فالصراع (الحدث) واحد، فصراع عبدالمطلب مع قومه هو بذاته صراع عبدالله وصراع محمد النبي، مما يجمع الشخصيات الرئيسية هذه في قالب رمزي واحد.. فما هو؟ وما دلالته؟
دلالة البئر
يبدأ الصراع مع الحدث الأول (حفر البئر)، وينتهي ظاهراً ببعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في ختام الرواية، ولاستخلاص ما وراء النص (التأويل) يتحتم على الناقد اتباع منهجية مناسبة للقراءة، وقد اخترت منهجية «رومان جاكوبسون»، التي تتناول العناصر من خلال المحورين الأفقي (التتابعي) والرأسي (التبادلي)، فكيف جاء التأويل؟
تترتب الأحداث على المحور التتابعي، وتتتابع انطلاقاً من البحث عن «زمزم»، وصولاً إلى بعثة النبي، وهذا أمر واضح جلي ليس لنا عليه أي تعليق، أما ما هو مميز فيأتي عند ترتيب الأحداث ترتيباً رأسياً (تبادلياً)، فالحدث الأول (البحث عن البئر)، يوازي الحدث الأخير (بعثة النبي)، والشخصية الأولى في الحدث الأول (عبدالمطلب)، توازي الشخصية الأولى في الحدث الأخير (النبي محمد)، وعليه يمكن لنا القول إن الصراع الأول يوازي ما لم يذكره الراوي من صراع سيكون بعد البعثة! بيد أن الواضح هو أن الصراع كان دوماً حول «الزعامة» و«السيادة».. أي ما يمكن التعبير عنه وفقاً لمصطلحات العقيدة الإسلامية «خاتم الولاية».. فمشكلة القوم مع عبدالمطلب ومحمد -صلى الله عليه وسلم-، هو اختلاف مفهوم الولاية لدى الجانبين، فهم يرون الولاية بالوجاهة الاجتماعية أو الثروة المادية أو كثرة الأبناء، في حين أن الولي (عبدالمطلب أو محمد)، يرى أن الولاية تتحقق في عدالة الشخص وعلمه وإيمانه. وهو ما كان يتأكد للقوم في ساعات البلاء، حيث كانوا دوماً يبحثون عن الأعلم والأحكم لحل مشكلة ما، أو الأعدل لحل نزاع ما، كما جرى في قضية هدم وإعادة بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود في موضعه، أو الأكثر إيماناً واتصالاً بالله، لإيصال رسائل السماء لهم، فيلجأون إذ ذاك إلى عبدالمطلب أو محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الرمز والمرموز
في علاقة وطيدة بين الرمز والمرموز، تتوازى «زمزم» مع فكرة الولاية، ويستعرض الكاتب رضا سرشار هذه القضية (محل صراع العرب منذ الأزل إلى اليوم) بأسلوب تلألأ بنعومة مفرداته، وفاض بشعرية لغته، ولولا براعة المترجم (د. بتول مشكين فام) لما وصل إلينا هذا العمل محتفظا ببكارة الإيحائية التي وسمته، فبراعة المترجم تجعل القارئ يظن أن النص قد كُتب بلسان عربي مبين!
إذاً فـ«زمزم» هي الولاية، وعبدالمطلب هو الولي، و القوم هم هم.. أولئك الذين ينازعون محمدا -صلى الله عليه وسلم- (أو ذريّته) حول «زمزم» (الولاية)، و ما انتهاء الرواية بحدث البعثة إلا نقطة الإشعاع التأويلي، التي يستخلص منها القارئ ما سيجري بعد ذلك من صراع. كتبه الكاتب البارع بأسلوب.. إيّاك أعني واسمعي يا جارة!
الراوي
أحد أبرز العناصر التي وسمت النص بهالة التميز هو الراوي، الذي امتزج فيه الراوي «العليم» ذاك الذي يتحدّث بضمير الغائب متوغلاً بأسرار الشخصيات، والذي كان يطل بين الحين والآخر ممسكاً بزمام السرد، بذاك الراوي «المصاحب»، الذي لعبت دوره شخصيات الرواية والتي كان كلامها يتلألأ بين غمازتين (قوسين)، كأنها تلك الشخصيات التي كانت تروي أحاديث النبي في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي، ولعلي لا أبالغ إن قلت إنني لم أرصد هذا الأسلوب لأول مرةٍ في الأدب العربي والإسلامي الحديث، فهو أسلوبٌ أصيل يذكّرني بـ«ألف ليلة وليلة» وغيرها من أدبيات المسلمين القديمة، إلا أنني لم أرصده حديثاً إلا في هذا العمل الجميل، فالرواة هنا يتأبط بعضهم بعضاً! فراوٍ يروي، وفي روايته راوٍ آخر يروي، وفي رواية الثاني نجد ثالثا أيضاً يروي! ثم تعود دفة السرد إلى الراوي الأول «العليم»، فيتحول العمل إلى عنقود سردي تستبطن الأحاديث فيه بعضها بعضاً، بأسلوب واثقٍ من صنع الكاتب الفذ، يضرب فيه المثل على إمكانية تقديم الحداثة مع الحفاظ على أصالة الشكل، مما يكفل للعمل الإبداعية بامتياز.