
لو تأملنا قليلاً ما تم تحقيقه خلال السنوات الخمسين الأخيرة من أجل تحسين حياة البشر لوجدنا العجب العجاب، فالتقدم الذي تحقق في هذه السنوات يفوق بآلاف المرات ما تم تحقيقه منذ وجد الإنسان على سطح هذه الأرض. تقدم في كل المجالات ومن دون أي استثناء، بل إن الإنسان توصل إلى فك شيفرة الحمض النووي والمورثات ووصل إلى سطح القمر، وأرسل اختراعاته إلى المريخ وما بعد المريخ. وما بين هذه وتلك أنزل إلى الأسواق عشرات آلاف الأجهزة التكنولوجية التي بات من الصعب على المرء مجاراتها أو حتى معرفة كل شيء عنها.
لقد تغير العالم بفضل التكنولوجيا والتقدم المتحقق في المجالات العلمية والطبية كافة، لكن هذا التقدم المذهل يشمل جانباً سلبياً للغاية هو البدانة.
ولو توقف الأمر عند البدانة «المعقولة» لهان الأمر، لكن المشكلة هي أن البدانة تجاوزت كل الحدود وباتت مرضاً قاتلاً يمكن أن يهدد البشرية صحياً واقتصادياً.
هنا يتساءل كثيرون: هل التكنولوجيا هي المسؤولة؟
تقول دراسة حديثة لباحثين من معهد «ميلكن» بوجود علاقة بين المبالغ التي تنفقها الدولة وتستثمرها في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وبين معدلات البدانة بين سكان هذه الدولة.
وتشير الدراسة التي أجريت في سبع وعشرين دولة واستغرقت واحداً وعشرين عاماً بين 1988 – 2009 إلى أن كل %10 زيادة في الإنفاق والاستثمار ترفع معدل البدانة بنسبة %1.4 بين سكان هذه الدولة.
الخمول بدل النشاط
البعض يتجاهل القواعد الصحية والغذائية في الأعياد والمناسبات، لكن المشكلة هي أن تجاهل هذه القواعد صار عادة متأصلة لدى الغالبية، فالتكنولوجيا التي يفترض بها أن تسهل حياة البشر ساهمت في تغيير الكثير من المفاهيم، وصار الناس يقضون حاجاتهم ويمارسون أعمالهم جلوساً في المكاتب أو في المنازل المريحة، اختفت الحركة التي تحرق السعرات من حياتهم وسيطر الخمول والكسل بدلاً منها.
حقيقة أخرى، خروج المرأة إلى ميدان العمل فرض حقائق جديدة على الأسرة التي باتت تعتمد بصورة رئيسية على الطعام الجاهز أو نصف الجاهز أو التردد على المطاعم بصورة شبه يومية، ولا نأتي بجديد حين نقول إن الفرق بين هذه الأصناف والوجبات الطازجة الشهية كبير جداً في المذاق وفي الفوائد الصحية أيضاً.
وفي زمن التكنولوجيا أيضاً باتت الأسرة تفضل قضاء الوقت أمام التلفزيون بقنواته الأرضية والفضائية التي تضع العالم كله بين يدي أفرادها، وبالطبع فإلى جانب التلفزيون تأتي عشرات الأجهزة التكنولوجية الحديثة والألعاب والهواتف الذكية والمواقع الاجتماعية التي تستهلك الوقت ولا تبقي منه ما يكفي للقيام بأي نشاط أو حركة.
نصف مليار بدين
حسب دراسات حديثة وموثقة يوجد في العالم أكثر من مئتي مليون رجل وثلاثمائة مليون امرأة يعانون من البدانة، ونصف المليار هذا يزيد على عدد سكان الولايات المتحدة وكندا والمكسيك مجتمعة. كما أنه يزيد أيضاً على عدد سكان دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة.
تضيف الدراسات أن البدانة تنتشر بمعدلات مخيفة في الدول التي لم تكن شعوبها تعرف البدانة. ففي اليابان مثلاً ارتفعت البدانة بنسبة %77 خلال السنوات العشرين الأخيرة. وفي الصين تضاعفت معدلات البدانة عما كانت عليه قبل ست سنوات فقط.
ليس هذا فقط، فالأرقام تشير إلى أن العمليات الجراحية لتخفيض الوزن في القارة الآسيوية زادت بنسبة %449 خلال السنوات الخمس الأخيرة.
الثنائي المرعب
الحديث عن البدانة يوصلنا إلى الحديث عن السكر وأمراض القلب وما يسببه هذا الثنائي المرعب والقاتل من مصائب وخسائر في الأرواح والأموال، فالميزانيات المخصصة لمكافحة البدانة وتوابعها باتت ترهق بل تتجاوز ميزانيات معظم الدول حتى الغنية منها.
يقول باحثون من معهد «ميلكن» في دراستهم إنه لو فرضنا أن العالم استعاد عافيته ومعدلات البدانة التي كانت سائدة فيه عام 1998 أي قبل أربعة عشر عاماً فقط لتمكن من توفير ستين مليار دولار سنوياً من الميزانيات المخصصة للرعاية الصحية، ليس هذا فقط فاستعادة العافية والعودة إلى معدلات البدانة التي كانت سائدة قبل أربعة عشر عاماً تعني أيضاً زيادة الإنتاج بما يقدر بمئتين وأربعة وخمسين مليار دولار سنوياً.
معدل العمر
جانب إيجابي آخر من جوانب التكنولوجيا أو لنقل إنها واحدة من مزايا التكنولوجيا فقد سبب التقدم العلمي والطبي ارتفاع معدلات الأعمار في العالم وانخفاض معدلات الموت حتى في الدول الفقيرة. لكن لهذه المزية جانبها السلبي وهو أنه لن يكون من السهل توفير الطواقم الطبية الكافية للعناية بهذه الأعداد المتزايدة من السكان والتي ستعاني في غالبيتها من البدانة وتوابعها من الأمراض القاتلة.
وتقول دراسات طبية حديثة إن معدلات الأعمار ارتفعت في السنوات الأربعين الأخيرة بنسبة أحد عشر عاماً للرجال واثني عشر عاماً للنساء.
وبالطبع فالعمر الطويل يعني زيادة أعداد المرضى وأعداد أولئك الذين يعانون من الجروح والكسور وأشباهها.
بعد هذه الحقائق والمقارنات يقول باحثون إن الحل الأمثل والأفضل يكمن في التوقف عن إضاعة الوقت في معالجة عوارض ونتائج البدانة والتركيز بدلاً من ذلك على ضرورة التعامل مع أسبابها.
التكنولوجيا بريئة
من أجل الوصول إلى لب المشكلة لا بد من تبرئة التكنولوجيا من مسؤولية البدانة، فالمشكلة الحقيقية ليست في التكنولوجيا بل في طريقتنا لفهم كيفية الاستفادة منها وتسخيرها لمصلحة البشر من أجل صحة أفضل، لأن التكنولوجيا أشبه بسيف ذي حدين، فيها الداء وفيها الدواء أيضاً.
يقول باحثون إن المطلوب الأول هو أن يدرك الجميع حقيقة أن التكنولوجيا يمكن أن تساعدنا على تحقيق أوضاع صحية أفضل، فالمستشفيات والعيادات باتت مجهزة بتكنولوجيا تربط الطبيب بمريضه عبر الهواتف الذكية والكمبيوتر أينما كان وفي أي وقت كان، مما يعني فتح قنوات التواصل بين الطرفين خاصة أن الأطباء باتوا قادرين على الوصول إلى المعلومات الكاملة عن المرضى وهي معلومات مخزنة في كمبيوترات المستشفيات والعيادات حتى الصغيرة منها.
ومن شأن هذا التواصل الذي يغير الطريقة النمطية للعلاقة بين الاثنين مساعدة الطبيب على اتخاذ قرارات أفضل معتمداً على ما لديه من معلومات توفرها التكنولوجيا الحديثة، كما أن هذا التواصل بين الطبيب والمريض يساعد الأخير على تغيير نمط حياته والكثير من الممارسات حين يكتشف الطبيب أن هذا النمط وتلك الممارسات تسبب الضرر لصاحبها.
ليس هذا فقط، فالتكنولوجيا قدمت للبشرية في السنوات الأخيرة تطبيقات يمكن الحصول عليها عبر الإنترنت والهواتف الذكية من شأنها مساعدة الناس على فهم أفضل لما يفيدهم أو يضرهم في حياتهم اليومية وعلى المدى البعيد أيضاً وبهذه الطريقة يمكنهم السيطرة إلى حد بعيد على خياراتهم الصحية.
تمنيات العام الجديد
مع دخول العام الجديد، ما المانع من وضع قائمة بما نتمنى تحقيقه على الصعيد الصحي في هذا العام والأعوام التالية مستفيدين من التكنولوجيا؟
المطلوب في الأمنية الأولى أن نسخر التكنولوجيا لخدمتنا بصورة أفضل واكثر ذكاء بدلاً من العكس، وليس التوقف عن الاستمتاع بما قدمته لنا من ألعاب ومسليات وخدمات.
أفضل ما يمكن أن نبدأ به هو أن نشارك بفعالية في تقرير أوضاعنا الصحية وأوضاع أفراد الأسرة أيضاً وذلك بتسجيل التغيرات التي تطرأ على هذه الأوضاع، خاصة تلك المرتبطة بالبدانة والأمراض الناتجة منها مثل السكر والقلب والشرايين بسبب الأضرار الصحية الجسيمة التي تسببها هذه الأمراض.
وبالطبع فتسجيل هذه المعلومات يسهل عملية التواصل مع الطبيب المختص ويساعده على اتخاذ القرارات الصحيحة حين الضرورة.
آلاف التطبيقات
في إطار تسخير التكنولوجيا في خدمتنا يمكن الاستفادة من آلاف التطبيقات التي يمكن تنزيلها عبر الإنترنت والهواتف الذكية، وهي مجانية أو شبه مجانية وتتناول كل جوانب الحياة تقريباً.. ابتداء من كيف تحصي خطواتك أو كيف تحرق سعراتك الحرارية وانتهاء بكيفية تنظيم ضربات قلبك أو ماذا تأكل وتشرب وماذا تتجنب أكله أو شربه. وفي كل يوم تطل علينا مئات التطبيقات الجديدة والمطلوب أن نستفيد منها من أجل الحفاظ على صحة أفضل.
ومن التطبيقات الموجودة في الأسواق المتخصصة ما هو مصمم لقياس الوزن ونسبة الدهون في الجسم ومعدل ضربات القلب بل وتخطيط القلب أيضاً.
تطبيقات أخرى يمكنها قياس مستوى النشاط وأنماط النوم وضغط الدم ومستوى السكر في الدم، وهي كلها من نتاج التكنولوجيا التي يمكن الاستفادة منها وتسخيرها لخدمتنا من أجل الحصول على ثروة في البيانات لتقديمها إلى الطبيب المختص حين الضرورة.
ممارسة الرياضة
الأمنية الثالثة على قائمة التمنيات للعام الجديد أن نعيش حياة نشيطة مليئة بالحركة والحيوية وذلك بممارسة الرياضة لمدة ساعة على الأقل يومياً، وعدم الاكتفاء بذلك بل تشجيع بقية أفراد الأسرة على ممارسة الرياضة اليومية أيضاً، فممارستها مع الآخرين تضفي أجواء من المرح وتشجع على الاستمرار.
يختم الباحثون بالقول إن في استطاعة الإنسان أن يحصل على أوضاع صحية أفضل لكنه مطالب بأن يتحرك في الوقت المناسب وفي الاتجاه المناسب أيضاً، لأن الطريقة الوحيدة لوقف زحف البدانة تكمن في أن يصبح البدين جزءاً من الحل بالاستفادة مما توفره التكنولوجيا وهو كثير.
حب وكراهية
يقول أحد المتخصصين إن أفضل وصف للعلاقة بين التكنولوجيا والصحة هو القول إنها علاقة حب وكراهية في آن. يوضح المتخصص توصيفه بالقول إن السفن والطائرات وهي من ثمار التكنولوجيا ربطت العالم وما بين الشعوب لكنها في الوقت نفسه نقلت الأوبئة والأمراض بين الجهات الأربع وزرعتها في كل مكان وصلت إليه. يضيف: على العكس، فالأنواع الأخرى من تكنولوجيا الاتصالات مثل الراديو والتلغراف والتلفزيون زرعت بذور الثقافة بين الشعوب والحضارات وساعدت الإنسان على تحقيق التقدم في مختلف المجالات.