«إنِّي لأجْبُنُ من فراقِ أحبَّتي»
(المتنبي)
يشير إليّ البرد بأطراف أصابعه.. ليستدرجني الى دفئي المفقود للأبد.
***
يذكرني بأعياد الميلاد، البعيدة عني، فأتذكر حلوى مصنوعة على هيئة بابا نويل، أخبئها عن أعين العائلة الخائنة لما تخفي الصدور، كي تذوب في شغافي وحدها.
***
أعيش بدايات شتائي كلما داهمني هذا البرد حتى أستعيد غائبي الذي صنع حضوري كله.. ورحل.
***
بحيل بسيطة كان يصنعني امرأة جديدة بذكريات قديمة.
***
يفرش لي الأماني عند رأس كل سنة بأمل يتلاشى بين يديه عاما بعد عام، ويكبر بيننا كل يوم.. ثم ينتهي بالرحيل.
***
يعاند حزني بضحكة هادئة جدا، وفنجان قهوة، وحديث لا ينتهي عن ميليشيات لم تستطع اغتيال براءته الجبلية في شوارع بيروت.
***
يباغتني بنزوات قصيرة.. موحشة. ويهمي كمطر لا أعرفه ولا يعرفني من وراء نافذة مفتوحة دائما.
***
يغرقني بالأحمر في أعياده التي لا أعرف متى تجيء، فأخجل من سوادي الأبدي، وأقرر أن أنزع عباءة جدتي لأقرأ قليلا في سرمد الحكايات الإنجيلية.. لكني لا أفعل.. أنسى أو أتناسى.
***
يراهن على شيء لا أراه، ويطيّر بين كفيه حمائم بيضاء وجميلة جدا لولا أنها غير موجودة إلا في لوحات يرسمها على الورق الأصفر ليداري خجله اللامرئي.
***
يجمع قصاصات الصحف ليهدي كسلي بعضا من الشعر اليومي المنشور، وبراحتيه يكفكف دمع قصائد لا يحبها.
***
ينهرني بغضب مصنوع كلما لمحني أضع بين اسناني مشبك الورق الحديدي.. ويتكسر شظايا من أمل ورجاء كلما هددته ببلعه ليبلغ نزقي مداه الأقصى في غياهب الدلال.
***
بخطواته الثقيلة يمشي فيطير خلفه سرب حمام بري ببطء يناسب وهن القلب الكبير، وانتكاسة الروح المثلى. يقف فتقف على كتفه الحمامة المدللة ويغض السرب طرفه حياء.
***
يتلفت فينزرع المدى بالكلمات. يبتسم للمدى فتتطاير الكلمات في سقف القاعة الكبيرة وتتلاشى في خضم الصمت وصوت نقر الأحرف على لوحة المفاتيح.
***
يوزع كلماته الساخرة على الجالسين في كسل الصباح فيصفق سرب الحمام وتفزع الحمامة الغافية على كتفه ليغذ سيره الواهن.
***
لا ضحكات مجلجلة، لكنها الجلجلة التي تتبع الضحكات القصيرة الخافتة أينما كانت، فتعيد للموسيقى بعضا من حكاياتها النائمة.. منذ ثمانينات بيروت.
***
بيروت يا بيروت. يا حكاية لا تموت، يا دمعاً متحجراً في قاع الروح، يا دبابة شقت الطريق فنكأت الجرح واندلقت الذكريات في فنجان القهوة البارد.
***
بيروت يا بيروت.. يا مدينتي المنتظرة، يا بندقية نائمة في درج المطبخ، يا مسدسا يتقاسم المساحة مع الورق في درج المكتب، يا دما سائلا في مجرى الحبر.
***
بيروت يا بيروت.. أيتها المدينة التي آمنتني من خوف وأطعمتني من جوع وأيقظتني من سبات.. قبل أن أراها.
***
بيروت يا بيروت.. يا حجري الثقيل الجميل النبيل.. أطوحك في بحيرة نسياني فتخلقني من جديد دائرة حول دائرة ولا قرار.. أهرب منك ومنه ولا فرار.
***
بيروت يا بيروت.. يا حلمي الذي سأكتبه ذات يوم على جناح النورس الذي هبط بسكينة على شاطئي الحزين ذات زمن بعيد جدا.. فأفرغ في روحي حمولته من الحب وحلّق في السماء للأبد.. تماما كما يليق به.
***
بيروت يا بيروت.. انتظريني..
سعدية مفرح
saadiahmufarreh@